أهلاً بكم في سوريا الأسد

أكتوبر 8, 2012

مدونة جدران بيروت08.10.2012أهلاً في سوريا الأسد … Welcomm in Syria Lionاستقبلتني هذه العبارة باللغتين عند المعبر السوري من الحدود الأردنية السورية. كُتبت بخط كبير على حائط نقطة العبور، بالإضافة الى عشرات الغرافيتي غيرها التي تمجّد الرئيس بشار الأسد.عند دخولي “سوريا الأسد” رأيت نازحين يفترشون الأرض أمام النقطة الحدودية ينتظرون “الفرج”. علمت من سائق التاكسي الدرعاوي ان السلطات السورية تمنع خروج السوريين الى الأردن عبر الحدود البريّة تطبيقاً لقانون جديد يشترط على من يريد الخروج ان يكون قد خرج مسبقاً وتم ختم جوازه خلال عام ۲۰۱۲.أوقف أحمد سائق التاكسي سيارته جانباً واعتذر مني قائلاً أنه سيغيب قليلاً لمساعدة أمه وأبيه للدخول الى الأردن. فهو لديه معارف على الحدود التي مر بها يومياً على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية.غاب حوالي الساعة، كنت خلالها أراقب تفاصيل ما أراه من حولي وأستمع خلسةً الى أحاديث الناس. كانت الرياح قوية، تبدلت فجأةً أول دخولنا سوريا. راقبت حركة الناس وحالة الإنتظار على وجوههم. كان الوقت عند المغيب، وكان من الواضح إليهم أنهم لن يعبروا اليوم. بدأوا بإخراج الفرش من السيارات وتحضيرها وإطعام أطفالهم.عند مغيب الشمس ظهرت الأراضي الزراعية في الأفق، وبان أول حاجز للجيش السوري بعد الحدود.عاد أحمد وقال “انفرجت”.استغرقت الرحلة من الحدود حتى دمشق حوالي ثلاث ساعات، توقفنا خلالها على ثمانية حواجز للجيش النظامي. الحواجز تشبه بشكل مربك تلك التي اعتدنا عليها في لبنان: دشم ترابية وعسكريين، بعضهم بملابس مدنية، يتصرفون بروح فكاهية كأن شيئاً لم يكن. سمعت جملة “رح نمرقك كرمال الحلوة يللي معك” ثلاث مرات. وفي أحد الحواجز عند تفتيشهم للسيارة، وجد العسكري أكياس الخبز التي كان قد اشتراها أحمد من الأردن ليأخذها معه الى الشام. عبّر العسكري على انه “ميّت من الجوع” فحمل أحمد كيس من الخبز وقدمه له. أوقفه الضابط من بعيد صارخاً “رجّع الكيس، المقاتلين ما بياكلوا”.وصلنا دمشق وشعرت بأن هناك حالة من الهلع في الطرقات. شرح أحمد ان الليل إقترب والجميع يستعجل للعودة الى المنازل. نزلت عند الكراج وودعته.إستقليت تاكسي آخر للذهاب الى منزل أصدقائي. كان السائق شاباً فلسطينياً من مخيم اليرموك. شتم أول حاجز ونحن نقترب منه بعفوية ومن دون حسابات، قائلا “خلاص، قريبا طايرين كلكن يا …”في اليوم التالي، مشيت مطولاً في شوارع دمشق مع وسيم، شاب من قدسيا نزح من بيته بسبب شدة القصف. قال وسيم ان مَن لا يريد ان يفتّح عينيه، ربما لن يرى شيئاً يحصل هنا. يمكن للحياة ان توحي على انها طبيعية، فالناس في الشوارع والأسواق شغالة في الـ “6 كيلومتر المتبقية من الشام” (حسب قول صديق آخر). لكن المشاهد المتكررة للحواجز تشير الى عسكرة تامة للحيّز العام في دمشق. على شارع بغداد مثلاً هناك دشمة ترابية يجلس داخلها ثلاثة عساكر يحتسون القهوة وسلاحهم على الأكتاف ويتصرفون كأنهم داخل ساحة معركة. فيما يمر المشاة أمامهم ومن حولهم حاملين أكياس طعام ومشتريات. عسكري منهم أوقف “فان” صغير لتفتيشه، نزل منه السائق قائلاً بسخرية “والله اليوم ما محمّل شيء، كان لازم تفتشني مبارح، كان الصندوق مليان”.جدران دمشق كما رأيتها آخر مرة: معارك الغرافيتي واضحة عليها، وشعارات للثورة وللحرية مختفية تحت طبقة من الطلاء الأسود الذي أصبح يميّز حيطان المدينة، وأوراق نعوة منتشرة بكثرة في الحارات، بعضها يذكر كلمة “شهيد”.كنا نشتري الخضار من الدكان ليلاً، مرت امرأة وابنتها وسألت البائع عن سعر كيلو الموز. جاوبها ٧۵ ليرة. تفاجأت من ارتفاع السعر وطلبت منه ان يعطيها الكيلو بستين ليرة. رفض فألحت، لكنه رفض من جديد، فبادرت الإبنة وقالت بعفوية “عمّو نحنا حماصنة”. وبعفوية أيضاً سارعت الأم ووضعت يدها على فم الابنة لإسكاتها.ما بقي في ذهني هذه المرة من الشام ليس مبانيها القديمة ولا أسواقها ولا بيوتها العربية ولا مقاهيها، ولا حتى دمارها الذي نراه على الشاشات، بل وجوه من بقي فيها… نظراتهم وقلقهم، قصههم غير المنتهية عن الصمود والهواجس والتناقضات والثورة والسخرية والحياة اليومية في “سوريا الأسد”. وفي بقائهم ولقاءاتهم وصمودهم شيء يشبه الحرية المطلقة، بالرغم من حالة الإختناق التي يعيشونها.سمعت قصصاً كثيرة في دمشق. لكن هناك قصة واحدة ما زالت تلاحقني. هكذا رواها شاب إسمه علاء:***كنت فايق سبعة الصبح لروح على الشغل، طلعت من البيت لآخد تاكسي. لقيت واحد صافف على جنب الطريق. فتحت الباب وقعدت بالسيارة وقلتله “على الغوطة”. كان شوفير التاكسي زلمي كبير عمره تقريا ۷۵ سنة. برم لعندي وقللي: “بتعرف تسوق؟”أنا استغربت وقلت لحالي يا الله انا مش نايم كل الليل وما إلي جلد الزناخة… فقلتله “مو كتير عمّ. ووضعي ما بيسمح إني سوق.”فالختيار شغّل السيارة وطلع فيي. بعد شوي فكرت إنو ليش هيدا الزلمي سألني إذا بعرف سوق.. فسألته. قام جاوبني: “أنا كنت هلق راجع على الشام. بالطريق شفت حاجز عن بعيد، فخففت. لما اقتربت، انتبهت انو جنب الحاجز فيه جثث مصفوفة على الأرض بكل عرض الطريق. وقفني العسكري يللي على الحاجز وسألني لوين رايح. قلتله الشام. قللي طلاع فوق الجثث بالسيارة وكمل طريقك. ما قدرت. قلتله لا يا إبني انا ما بقدر أعمل هيك. قللي ” عم قلك طلاع بالسيارة على الجثث وكمل طريقك”. قلتله إعفيني منها، أنا رجال كبير ومريض ونفسيتي تعبانة. جاوبني “إطلع بالسيارة فوق الجثث أو رح صف جثتك جنبهن”. وما قدرت أعمل شيء. طلعت فوقهم واتمنيت لو ما بعرف سوق. وقررت ما بقى سوق بحياتي.”(علاء يكمل) أنا سكتت. ما قدرت قول شيء. حسيت انو هالرجل كان محتاج يخبر هالقصة، ومحتاج يقللي انو ما بقى رح يقدر يسوق بحياته. كيف الواحد بينحط أمام هيك خيارات؟***روى علاء القصة، وانا حاولت إخفاء دموعي. تذكرت حديثاً دار قبل أسبوع بين أصدقائي في لندن. كان نقاشاً حول سيناريو إفتراضي يُطلب من الواحد منا أن يختار بين قتل ثلاثة أشخاص بنفسه اوالرفض وبالتالي التسبب بمقتل هؤلاء الثلاثة ومقتل ثلاثة أشخاصاً أخرين معهم.في دمشق، القصة واقعية، وعبثية أكثر والخيارات التي تُفرض على السوريين تتخطى صعوبتها أية لعبة سوداوية من صنع الخيال. كان ذلك الرجل المسّن أمام خيار الموت أو المشاركة في الجريمة وتدنيس الجثث والمهانة والعيش مع هذا الكابوس طوال حياته.أهلا بكم في سوريا الأسد.تركت دمشق في اليوم التالي. نقطة الإنطلاق كانت موقف السومرية حيث يزداد المشهد سريالية: نقاط تفتيش لعساكر لا يترددون في تلطيشي، على خلفية لشاشة قناة الدنيا تبث حفلة غنائية لفيروز!على المعبر السوري من الحدود مع لبنان، وقفنا في الصف حوالي الساعتين. كان هناك بطء ممل في إجراء معاملات ختم الجوازات، وكمية هائلة من السوريين تترك البلد. كان يخبرني علاء في الليلة الفائتة ان الجميع من حوله ينوي السفر وأنّ خوفه الأكبر هو ان يبقى وحيداً في دمشق. علاء، فكرت بك كثيراً عند الحدود. أردت أن أخبرك أنّ فيما كان الجميع واقفاً في الصف لختم “خروج” من سوريا، كان هناك فتاةً صغيرة، جملية، واقفة جانباً تنتظر أهلها وتدندن “يا حمص حنا معاكي للموت، يا درعا حنا معاكي للموت…”المصدر: جدران بيروت