الأدب بين سطور الثورة
قد يصحّ القول بأنّ أكثر ما ميّز الثورة السورية عن غيرها من ثورات المنطقة هو الكمّ الهائل من الإبداع الذي ظهر على السطح مع الأشهر الأولى للثورة، و إستمرّ يجاري كلّ أحداثها، سواء ً كان هذا الإبداع بصريّ عن طريق التصاميم الألكترونيّة أو التصوير و الرسم و النحت أو حتّى اللافتات التي ترفع في المظاهرات أو تلك التي تبخّ على الجدران، الموسيقى، الغناء، الهتاف .. الخ، و لربما كان الأدب المكتوب هو الأقل ظهورا ً على السطح في هذه المرحلة. الأدب المكتوب مازال َ بين السطور بمعظمه ِ و لكن ماذا يحصل بين تلك السطور؟للإجابة على عدد من الأسئلة المرتبطه بهذه الفكرة أجرينا الإستبيان التالي مع كلّ من براء السراج ( طبيب و صاحب كتاب من تدمر إلى هارفرد – في إشارة إلى سجن تدمر )، حازم العظمة ( شاعر سوري)، و مها حسن (روائيّة و أديبة سورية )، فكانت هذه أجوبتهم :لوحظ الكثير من التغيير و التطوير في الأسلوب و المدارس الفنية السورية في فترة الثورة و مجاراتها، ماذا عن الأدب المكتوب؟براء السراج: معظم الأدب المكتوب هو أدب السجون نظرا لكثرة عدد المعتقلين من جهة وطول مدة سجنهم من جهة ثانية.مها حسن: الأدب أيضاً سيتعرض لتغييرات، الفارق بين الأدب المكتوب وغيره، فارق زمن النشر. ثمة كتابات موجودة، لكنها تنتظر النشر، أو في قيد النشر، وهي كما أعتقد تشكل انعطافاً في شكل الكتابة السورية.ما هو بإعتقادك مدى تأثر الأدب بالثورة و بالتالي تأثره بها، هل تأخر الشاعر و الأديب عن اللحاق بالثورة أم أنّ الثورة نشأت بعيدة عنه؟براء السراج: لا شك أن هذا التأثر حاصل ولكنه جهود مبعثرة تصدر غالبا عن غير متخصصين أو موغلين في الأدب وفنونه. لا أظن أننا سنلمح هذه العلاقة الوثيقة إلا بعد زوال النظام وتحرر أهل الأدب الذين يقبعون تحت خوف الانتقام من النظام.مها حسن: الجواب على هذا السؤال نسبي جداً، يتعلق بموقف الأديب من الثورة، هناك من التحق بالثورة في بداياتها، وهناك من انتقدها. وفي الحالتين، الثورة خرجت من الشارع، عبر أطفال درعا، وعبر تظاهرات دمشق، ولم يكن للأدب أي دور مباشر فيها.هل تعتقد بأنّ ما يكتبه الأدباء و الشعراء يصل إلى الناس اليوم في هذه المرحلة؟براء السراج: بالطبع يصل بخاصة مع وسائل الاتصال من تويتر وفيسبوك وسكايب. ثورة المعلومات والانترنت أزالت معظم الحواجز التي تقف عائقا أمام وصول المعلومة. نظام الأسد يدرك ذلك تماما ولذلك يقوم بقطع وسائل الاتصال عن المدن والقرى بشكل متقطع أو دائم.مها حسن: هذا يتوقف على نوعية المتلقي. فالناقد مثلاً أو الروائي أو الشاعر، يتابع النتاج الأدبي، ولكن دون شك، الشارع مشغول بالثورة على أرض الواقع، أكثر مما هو معني بما يُكتب عنها.ماذا عن فكرة أنّ هذه الثورة ليست ثورة مثقفين و هم لا يؤثرون بها؟ و بالتالي ما هي أهمية المثقفين في التفاعل مع الشارع؟براء السراج: وماذا نعني بالمثقفين هنا؟ أهم أصحاب الدكتوراة فقط؟ بالطبع هذه ثورة مثقفين وشعبنا معروف أنه عالي الثقافة والتعليم وحريص عليهما. هي ثورة مثقفين ولكن بدون أدلجة حزبية أو شعارات رنانة جوفاء. هي ثورة الشارع بكل مكوناته.مها حسن: الثورة تجاوزت المثقف، وبدأت بعيداُ عنه، لكنه يستطيع التأثير بها، وممارسة دوره الثقافي، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة من اختلاط الكثير من المفاهيم. الثورة بحاجة إلى المثقف النقدي، العقلاني، غير العاطفي، وغير الخاضع لمزاج الشارع الانفعالي. لا يجب أن يغيب أن دور المثقف دوماً هو البوصلة العقلانية التي تضبط الانفعالات البدئية غير العاقلة أحياناً. ولكن لدى المثقف اليوم مشكلتان، أولا المنبر، ثانيا التحريم الجديد الذي صار يظهر أمامنا، من داخل الثورة، إذ ثمة تابوات جديدة صارت تُفرض على المثقف، وتتسبب له بلعنة الشارع، في حال تعرض لانتقاد أحد مظاهر الثورة، علماً أنه من أبنائها ومنتمٍ إليها. كما أنه هناك بعض المشاكل المتعلقة ببنية المثقف النفسية، أهمها النرجسية والتعالي على الآخرين بحيث يعتبر كلامه مبجّلا وغير قابل للنقد، نحتاج لبناء علاقة ثقة واحترام وحرية بين الشارع والمثقف، ليفهم أحدهما الآخر، ويتعلّم منه، دون وصاية، أو تخوين، أو تأثيم.تغييرت العديد من مفاهيم الفن السوري، الذي اكتسب معظم هويته بعد الثورة، بعد َ إنخراطه بشكل ٍ مباشر في الشارع و مع الحراك، في حين أنّ الأدب السوري مازال َ بلا هويّة ثوريّة، هل تعتقد أن هذا ممكن أن يؤثر على النتاج الأدبي السوري في المرحلة القادمة.براء السراج: الأدب السوري سيبدع بزوال الاحتلال التسلطي، أما الآن فإنه أدب سجون أو مقالات قصيرة في العديد من الصحافة الثورية الناشئةمها حسن :طبعا سيؤثر. أتصور أنه سيصعب على الأدب السوري القادم الإيغال في عوالم الفرح والدعابة مثلاً. إن الألم الذي مرّ به الشعب السوري، سيرسم ملامحه طويلاً، فإذا كان هناك مثلاً أدب الهزيمة، بعد حرب الـ67، فإن الأدب السوري القادم، سيحمل ملامحه أيضاً، ملامح خليطة من الأمل والتضحية والكبرياء، والقهر والحزن.أكثر أنواع الأدب التي استطاعت مجاراة الأحداث اليوم هي التي تنتشر على التوتير و الفيس بوك، و التي لا تتعدى ،في معظم أحيانها، 140 حرفا ً، أو تلك التي ترفع في المظاهرات، هل يؤثر ذلك سلبا ً في “ثقافة الثورة” برأيك؟ للأفضل أو الأسوأ؟براء السراج: لا أظنه سيؤثر سلبا ولكنه قد يصبح لغوا لايضر ولاينفع. كثير مما يكتب على تويتر يحمل بصمات تنميق كلام أجوف أشبه مايكون بمانفستو أحزاب مابعيد الاستقلال. الناس حاليا لاتثق بالأحزاب وشعاراتها الجامدة. دور ثقافة الثورة الآن هو ترشيد خطوات العمل الثوري والنصح للمنخرطين فيه. ثقافة الثورة موجودة واقعا وإن لم تتبلور بعد إلى حروف وكلماتمها حسن: لا أبداً. إن ظاهرة الفيس بوك مستقلة بذاتها، وتشكل برأيي إضافة للأدب، شريطة أن يكون النص ذاته جيداً من الناحية الفنية.أخيرا ً هل تعتقد بأنّ الأديب هو في النهاية مجرّد ذوّاق خاص للأدب و أنّ الأدب ليس بالضرورة أن يكون سياسيا ً و بالتالي ليس َ بالضرورة على الأديب أن يكون سياسيا ً بالمعنى العام؟براء السراج: لا يوجد فاصل بين الأدب والسياسة إلا تحت حكم دكتاتوري ولا إبداع في مجالات المعرفة الانسانية ومنها الأدب إلا إذا صدر عن عقول حرة وفي مناخات حرية وتحرر.مها حسن : الكاتب أو المثقف أو الفنان أو الروائي، لديه دائماً قلقه الأبداعي الخاص به، ولديه قلقه الوجودي كمبدع، وأي ظرف يحياه يؤثر به، ربما أضعاف ما يؤثر في غيره، لهذا فمن المستحيل برأيي فصل الهمّ المحيط بالكاتب أو المبدع عنه. الأمر ليس سياسياً، بل وجودي وأخلاقي، كيف يمكن لشخص ، حتى وإن لم يكن مبدعاً، أن يعيش في ظرف لا يبالي به، هل يمكن لأحدنا أن يسمع شوبان بينما بيت الجيران يحترق؟ ليس مطلوباً من المثقف أن يكون سياسياً، ولا أن يتحدث وينظّر في الثورة، ولكنه لا يستطيع أن يعتبر نفسه طرفاً مستقلاً غير معني بما يحدث، وإلا فثمة خلل ما، في تكوينه الأخلاقي والإنساني، والإبداعي.أمـّا حازم العظمة ففضّل المساهمة بالإستبيان بالنصّ التالي:الأدب ” سياسي” بقدر ما كل قول هو إشارة وإضافة مرسلة إلى آخرين ، بقدر ما كل “خطاب” ، حتى القول البسيط اليومي ، إسهام في كيف يكون العالم ، أو ما نقترحه في كيف يكون العالم .. أو كيف نحبّ أن نرى العالم ..وهل الأدب بالضرورة سياسي وهل الأديب بالضرورة سياسي .. ما أراه أن كل أدب يحمل مضموناً فكرياً .. أي سياسياً .. سواءً تعمّد ذلك أم لا ، سواءً أدرك ذلك أم لا ..لا نستطيع حتى الآن أن نتحدث متأكدين عن ما “قبل الثورة” وما “بعدها” في الفن كما في الأدب ، كما أني لا أستطيع بداية التمييز كثيراً بين ” الفن” و”الأدب” من الأساس .. أميل إلى ترجيح أن ” ماقبل” سيعيدنا إلى بحث الفن والأدب منذ الستينات وبعدها ، في تلك الفترة تكونت ملامح الأدب والفن الذي عاش في عهدالإستبداد ومن ذلك ما نشأ برعايته وما روّج له .. ومن ملامح هذه (الرعاية) : خطابية فارغة رخيصة .. ورومانسية ركيكة و”عدمية” مفتعلة ومتفذلكة ومستعارة .. و “ماورائية ” بملامح عشائرية .. و”استشراقية” ما في غير بيئتها .. وإدعاء لـ ” العالمية” كطريقة للإحتيال على جمهور مجهّل .. وغير ذلك ..لكن لم يكن هذا كل شيء ، كانت هناك أيضاً تحولات هامة حدثت ، من عناوينها في المسرح فواز الساجر مثلاً ، وفي الرواية فارس زرزور وفي القصة زكريا تامر ، وفي السينما عمر أميرلاي وأسامة محمد .. وفي الشعر محمد الماغوط ومنذر مصري ، وغيرهؤلاء عديدون ..هذه أمثلة وحسب وهناك الكثير غيرهم بالتأكيد ..إلا أن بذور فن جديد وأدب جديد كانت تتململ في التربة وتنتش في أثناء هذه الحقبة أيضاً .. هناك ابتداءً من التسعينات أسماء عديدة جداً صارت تكتب بطريقة جديدة متخلّيةً عن أوهام الأسلوب “الفخم” و “جهارة” الكلمات ، متخليةً عن الرومانسية الخطابية ومفككة لها ومن هذا أذكر على سبيل المثال العديد من كتّاب نشرة ” أوكسيجين O2″ ، كتابات عديدة جداً تحمل ضمناً سخرية وهزأً من رياء الخطاب القديم بمجمله ..هناك استمرارية ما قطعتها الثورة .. لكن قطعاً كهذا ، إن افترضنا، لا يمكن أن يكون “بتراً” .. هكذا لا أرى أن هناك سوراً يفصل ” ما قبل ” عن و”مابعد” .. أو أن إنقطاعاً كهذا لم يتضح بعد ، إنقطاع كهذا وتحوّل كهذا مرتبط كما أرى بمآلات الثورة نفسها وتكوّن ملامحها .. وكما هو الحال في الثورات هذه الملامح قد لا تأخذ شكلاً نهائياً في يوم ما ..وكما هو الحال في الثورات أيضاً، الفن والأدب الأهم ، والذي لم يأتِ بعد ، لن يكون في “مديح” الثورة بل في مديح الثورة التي بعدها ..