الوصاية على «الشارع»
جلال عمرانالأربعاء، ٣١ تشرين الأول ٢٠١٢.نزل سوريون إلى الشوارع في آذار ٢٠١١، ورفعوا شعارات سياسيّة أوّلية لم تحتو، عدا في حالات مناطقية، مطالبات سياسية عملية مباشرة. وبالطبع تزاحمت التأويلات والتحليلات لأهداف اللاعب الجديد، الشارع. ثمّ انتشرت المظاهرات في المدن والشوارع السوريّة، ولم يستغرق الوقت كثيراً حتى عبّرت هذه المظاهرات أنّ الجامع الرئيسي لها هو مطلب إسقاط النظام. كان ذلك ربّما المفصل الأساسي الذي أبرز انقسام النخب السياسية والثقافية المعارضة (يضاف إليهم اليوم متكلّمو شبكات التواصل الاجتماعي) حول ماهيّة أهداف الشارع المنتفض وسبل تحقيقها. وسرعان ما حصل استقطاب في وجهات النّظر خاصّة بعد أن واجهت الثورة أسئلة جدّية تتعلق باستراتيجية المواجهة بين الشارع والنظام. ظهر قطبان، بحيث يمكن التقاط شكلين متطرفين من العلاقة مع الشّارع: الأوّل يمارس وصاية نخبوية على الشّارع بحجّة عدم كفاءته السياسية، أمّا الثاني فيدّعي بأنّه يقول كلام الشّارع. وهذا الأخير يفرض وصاية من نوع آخر، وإن كانت أقلّ فظاظة.منذ أن انتشر مطلب إسقاط النظام، خرجت شخصيّات سورية معارضة بمقولة أنّ الناس تسرّعت برفع هذا المطلب، وأن هذا غير حكيم سياسياً. وانتظم لاحقاً قسم من هذه الشخصيات في أجسام سياسية «حكيمة» كان لها مواقف تجافي رأي الشريحة الأكبر من الجمهور المنتفض في قضايا إشكالية، تتعلق مثلاً بالمقاومة المسلّحة والتدخل الخارجي والحوار مع النظام. ورغم المحاولات الجاهدة لإظهار انسجام أو تسوية مع الشعارات السائدة للمتظاهرين، كانت الفجوة تتسع عيانيّاً بشكل كبير. سيكون الشارع هو المخطئ هنا: فالمتظاهرون انفعاليون ولا يقدّرون العواقب، فضلاً عن الإعلام الذي يحرّضهم، إن لم يُقل يسيّرهم، هو وقوى معارضة تُطلَق عليها اتّهامات شتّى. طبعاً قلّما يجهر أصحاب هذه النظرة موقفهم بهذا الشكل. بل يتم التركيز على لوم الإعلام والمعارضين «الغوغائيين والمزاودين»، أو بعض الأطراف التي تحرف الحراك عن أهدافه من خلال سلطة المال. ومن جهة أخرى، يجري البحث عن جمهور مفترض في الشّارع، وحيث يتعذّر ذلك، يكون الاستناد إلى شارع غائب عن السطح، صامت أو مُغيّب، يفترض هؤلاء مطابقته لهم في التوجّه. ليس غريباً أن تقود هذه النظرة هؤلاء حالياً إلى التذمّر من اختطاف الثورة، واستجداء حلول سياسية تُفرض من الأعلى وتتجاهل مطالب المتظاهرين- فهؤلاء المتظاهرون ليسوا أهلاً للثقة.في هذه النظرة استخفاف بخيارات الجمهور الثائر ودوره في صنع الحدث، الذي هو أهمّ لاعبيه، وفي صياغة مطالبه. نعم، للتعبئة والإعلام والمال دور، لكن الناس ترسم خياراتها أيضاً تبعاً لواقع معركتها. وهذه الناس ليست فقط معنية بالخيارات الاستراتيجية -التي يزعم «الحكماء» معرفتها- بل أيضاً بالواقع اليومي المرير التي تعانيه وتحاول مقاومته، وتبني على أساسه أيضاً مطالبها.لكن بينما يفرض البعض على الشارع وجهة نظر من الأعلى، ينافسهم من الطرف المقابل أوصياء من نوع آخر. يتكلّم الأخيرون باسم الشارع «الذي يريد…». الشارع هنا لديه مواقف واضحة ونهائية، وأيّ نقد لها يضع الناقد في مصافّ المتخاذلين، إن لم يُقل الخونة. ينطلق هؤلاء من ادّعاء معرفة أصيلة بالشّارع من خلال العمل الميداني أو المتابعة والتواصل، أو من منطلق معرفة جوهرانية، ويتحوّل الشارع إلى سلاح للمحاججة. ليس الحديث هنا فقط عن النسخة التلفزيونية من نوع «الشارع يريد التدخّل الخارجي» أو «الشّارع يدعم هذه الجهة السياسية»…. بل يشمل أيضاً طيفاً ممّن يصفون أنفسهم ب«الجذريين» ثورياً. فيكون كلّ ناقد لظاهرة ما في الثورة معرّضاً لتهمة معاداة مطالب «الشارع». لكن السؤال هنا: ما هو «الشارع» الذي يتحدّث باسمه هؤلاء؟ الشّارع الثوري متنوّع مناطقيّاً ومحليّاً في الحالة الستاتيكية، فضلاً عن أنّ خياراته تتفاعل مع الزّمن والظروف. هل تشترك جميع المناطق الثائرة في نفس الرؤية؟ ألم تتبدّل خيارات المتظاهرين باختلاف الظروف؟ والأهم؛ إذا كان الشّارع نفسه يمارس النقد والنقد الذاتي، فكيف يصحّ النظر بقدسية إلى الشارع -أو بالأحرى إلى ما يراه هؤلاء من الشارع- طالما أن الشّارع ذاته لا يقدّس نفسه؟ ألا يمكن أن يكون النقد «البرّاني» مساعداً لذاك النقد «الجوّاني»؟لعل نظرة إلى مظاهرات حي بستان القصر في حلب، على سبيل المثال، وعلاقتها مع المكوّن العسكري تفيد هنا. رغم أنّ المظاهرات محميّة من قبل المقاومة المسلّحة، إلّا أن المتظاهرين عبّروا عن حس نقدي تجاه أخطاء العمل المسلّح في المدينة، ولم يمنع ذلك كثيرين منهم أيضاً من التعبير عن الدعم بالمبدأ للمقاومة المسلّحة. لافتات توجّه التحية وأخرى تنتقد. أليس هذا مثالاً على حيويّة لا يمكن حصرها في نظرة أحادية؟ وليست بستان القصر حالة استثنائية هنا، فلها أخواتها في غير مكان.عدا عن إنكارهم لأي دور لمعادل سياسي لمطالب الجمهور المنتفض، يفرض المتكلّمون باسم الشارع وصاية أخرى عليه من خلال افتراض وجهة نظر أحادية تلغي تنوّعه وحيويّته. رغم إنّه من غير المنصف مساواة هذه الوصاية بتلك النخبوية من ناحية التهافت، لن يكون ظالماً الإدعاء أنّ بعض ممارسيها يريدون تقويل «الشارع» ما يريدون هم قوله، بدلاً من العكس المُدّعى. وإذا كان الأوصياء الأوّلون غرباء عن حال الشّارع، فإنّ قليلاً فقط من المبالغة يقودنا للقول بأن الآخِرين أيضاً يعيشون اغتراباً من نوع آخر.الشارع السوري أصبح لاعباً سياسياً وازناً منذ أن بدأ الثورة، ولا يمكن بالنتيجة تجاهله أو الاستعلاء عليه أو اختطاف رأيه. وهو بحضوره أساساً أعلن رفع وصاية طويلة عليه، لا ليقبل بأخرى.المصدر: الجمهورية للدراسات