صعود العدمية المقاتلة في سورية

سبتمبر 5, 2012

ياسين الحاج صالح05-05-2012 تهتم هذه المقالة بتقصي ظهور عناصر المُركّب العدمي في سورية، العنف والتدين وسحب الثقة من العالم، في ظل الثورة المستمرة منذ أكثر من أربعة عشر شهرا. من شأن التقاء هذه العناصر الثلاثة أن يولد حركة عدمية إسلامية من نوع تنظيم “القاعدة”. وفرص هذا الاحتمال تكبربقدر ما يتوفر لأمد أطول شروط إنتاج هذه العناصر، وإضعاف ما يحتمل أن يضادها من مقاومات اجتماعية.الشيء المميز في السياق السوري، والعربي عموما، هو استقرار المنازع العدمية على الإسلام في صيغه الأكثر تشددا والأشد نفيا للعالم. ستحاول المقالة توضيح هذه النقطة. سحب القيم من الواقع مميز للثورات، ففي كل منها جانب عدمي، لذلك سنتكلم أحيانا على عدمية ثورية، موجهة في نحو قلب كلي للواقع القائم، أو على عدمية مقاتلة لاعتمادها على القوة المسلحة في قلب الواقع. — 1 — هناك ثلاث عمليات تجري في الواقع طوال عام وشهرين ونيف، وتسهم في ظهور استعدادات عدمية. العملية الأولى هي العنف العدواني المستمر من طرف النظام، القتل والتعذيب والقصف الأعمى والمذابح والتهجير وحرق المنازل والاغتصاب، والإعدامات التعسفية، وحرق بعض الناس أحياء…، وهو ما يثير شعورا محتدما بالغضب والذهول، في بيئات مسلمة سنية بخاصة، تشعر بأنها مستهدفة على نحو تمييزي بأشد عنف النظام وأكثره تدميرا لحياة الأفراد ولشروط حياة الجماعات في عشرات المواقع في البلد. ويلعب هذا الشعور لمصلحة اقتناع يزداد انتشارا بأن هذا النظام العنيف الذي لا ضوابط له من نفسه لا يسقط بغير العنف. بعد عام من الثورة، ومواجهتها منذ اللحظة الأولى ودونما توقف بعنف مهول، أمسى المجتمع السوري مثالا للمجتمع المعنّف، الذي عومل بقسوة ولوقت طويل، فلم يعد يثق بأحد، ويحتمل أن تعتمد القطاعات الأشد تعرضا للتعنيف منه إلى مواجهة العنف بالعنف والقتل بالقتل. ولن يكون ذلك عقابا مستحقا للمعتدين في عين المعتدى عليهم فقط، ولا قصاصا حيويا واجبا فقط، وإنما هو كذلك تعبير عن الكرامة والشمم. العملية الثانية تتصل بمشهد المعارضة السورية المتخاصم، والأقرب إلى الركاكة عموما. ليست المشكلة هنا في اختلاف التوجهات والمواقف أو في انقسام المجموعات المعارضة، ولا في ضعف الطيف المعارض ككل وعجزه عن إحداث التغيير في البلد، بل في شيئين محددين: التنازع المستمر، دون وجود ما يقنع بأن أسباب التنازع عامة ووجيهة، بل وبوجود ما يرجح أن يكون دوافع شخصية للظهور وترقية النفس وراء معظمها؛ ثم المستوى المتواضع عموما، الرث غالبا، لمعظم المتكلمين المعارضين، وافتقارهم المشترك إلى رؤية واضحة وانضباطهم بها. محصلة ذلك تدهور الثقة بالمعارضين ككل، وما يقارب نفض اليد منهم جميعا ودون تمييز. في أحسن الحالات هم عاجزون لا شأن لهم، وفي أسوئها هو أناس غير محترمين وجديرون بالازدراء. هذا حين لا يكونون عملاء متنكرين للنظام، وهو ما لا يندر أن يوصف به بعضهم من قبل ناشطين في الثورة. وتجد هذه الأحكام تكميلها المنطقي في اعتماد الثائرين المحليين على أنفسهم. مسار الثورة السورية طوال عام هو مسار استحواذ المجتمعات المحلية على السياسة والكلام والفضاء العام، ليس في مواجهة النظام وحده، وإنما ضد الجماعات السياسية المعارضة أيضا. وليس من النادر أن يجري التعبير عن هذا الاستحواذ بلغة تدين السياسة ذاتها، وتحكم عليها بالقذارة والفساد، وعلى السياسيين بالكذب والوصولية واشتهاء السلطة. العملية الثالثة هي حالة الشلل العربي والدولي حيال الزمن السورية طوال أكثر من عام. قالت دول عربية وقوى دولية كلاما واضحا في تحميل النظام المسؤولية عن قتل شعبه، وتكرر مرات أن أوحت لعموم السوريين أنها إلى جانب كفاحهم وتضحياتهم، وأن عمر النظام السوري لن يطول، لكنها بعد انقضاء نحو 15 شهرا لم تفعل شيئا من شأنه أن يسهم في وقف هذه المقتلة المستمرة، أو قالت الشيء وعكسه. وقد حصل غير مرة أن استخلص النظام بحق من مواقفها وتصريحات ساستها أنه حصين في إطلاق يده في مصير محكوميه وفي البلد. ولقد أفضى ذلك في المحصلة إلى شعور منتشر بدوره بين السوريين بأنهم متروكون لمصيرهم، العالم غير مبال بهم، إن لم يكن متآمرا عليهم. ولا تنقص ذاكرة السوريين مبررات وجيهة للتشكك في العالم، والقوى الغربية بخاصة. — 2 — ولقد أتى الأثر المتعاضد لهذه العمليات الثلاث على ثقة السوريين بأية قوى منظمة حولهم، وإلى موقف يزداد سلبية من الجميع. وقد وجد هذا الواقع انعكاسه في بعض لافتات السوريين وهتافاتهم، وهي تعبر عن حالتهم النفسية تعبيرا مباشرا. في 17/2/ 2012، أثناء حصار وقصف بابا عمرو في حمص، رفعت “كفرنبل المحتلة” المحتلة لافتة تقول: “أو تظنونا مغفلين؟ دماؤنا أنهار، وأنتم تمثلون وتتبادلون أدوار الخير والشر! العالم كله كذاب ومخادع”! إن كلمة “المحتلة” التي تصف كفرنبل نفسها بها، وقد شاع تداولها في لافتات مناطق أخرى، تحيل إلى سياق نفسي وسياسي يتقبل المواجهة بالقوة من أجل التخلص من الاحتلال والتحرير. والهتاف الشهير: يا ألله، ما إلنا غيرك يا ألله! وقد ظهر في صيف 2011، بعد شهور من انطلاق الثورة، ينطوي على شعور مشتد بالعزلة وفقدان السند. وفي يوم 17/3/2012، وفي مظاهرة تشييع شهداء اليوم السابق، هتف المتظاهرون في الرقة: شعبك أعزل يا ألله! في جملة واحدة أعلنوا أنهم شعب الله وأنهم عزّل، يستهدفهم بالقتل نظام مسلح وعدواني. الجمع بين الله والسلاح هو مخرج “شعب الله الأعزل” من ضعفه. قبل ذلك، في الخريف الماضي، 14/10/2011، رفعت بلدة “كفرنبل المحتلة” نفسها لافتة حظيت بالشهرة لكونها تجمع بين الطرافة والمأساوية، تقول: “يسقط النظام والمعارضة، تسقط الأمة العربية والإسلامية، يسقط مجلس الأمن، يسقط العالم، يسقط كل شيء”! بلدة كفرنبل مغمورة مثل سورية كلها، والانطباع العام عن سكانها، وعن محافظة إدلب ككل، يحيل إلى التدين المحافظ. وفي تسقيطها الجذري والشامل والمتساوي لكل شيء تعبر اللافتة عن رفض أي تمييز إيجابي لصالح أي كان. الجميع أشرار أو متواطؤون، أو لا فائدة منهم. وعلى أبواب عام من الثورة، رفعت لافتة تسقيطية أخرى في بلدة بِنِّشْ التي لا تختلف اجتماعيا وثقافيا عن كفرنبل، تخلو هذه المرة من الطرافة، لكنها أكثر يأسا وجذرية: “تسقط التنسيقيات والمجالس، يسقط الخونة في المجلس الوطني، تسقط الصفحة الرئيسية للثورة السورية
ينظر ما قالته سارة ليا ويتسن من هيومان رايتس ووتش عن الموضوع على الرابط: http://www.hrw.org/ar/news/2012/03/20 وحول جملة هذه القضايا تنظر مقالة كاتب هذه السطور: عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين. “الحياة”، 8/4/2012.المصدر: http://www.lb.boell.org/web/50-919.html