في الشبّيحة والتشْبيح ودولتهما

في الشبّيحة والتشْبيح ودولتهما

أغسطس 17, 2012

ياسين الحاج صالحخرجت من سورية، ولا فخر، كلمة الشبيحة إلى العالم ولغاته، بينما كان المسمى يخرج إلى “الشارع” السوري كالجنّي، يروع ويقتل، ويكره ويقذع في البذاءة. “يُشبّح”. ودخلت اللغة العربية ذاتها كلمة لم تكن معروفة خارج سورية، بل لم تكن معروفة في سورية نفسها على نطاق واسع. ولم تلبث أن أدرجت في عائلة من الكلمات النسيبة: شبّح، يشبّح، تشبيحا؛ وأن جُعلت علما على الموالين للنظام، يقابلها “المندسون” التي استصلحها المعارضون الشباب عنوانا جامعا لهم؛ وأن أدخِلت في سياقات جديدة: شبيحة القلم (رنا قباني)، شبيحة المعارضة، شبيح الفلاسفة، وهذا لقب سوري لبرنار هنري ليفي. أصل الكلمة غير واضح: هل هي مشتقة من أشباح، لكون الشبيحة خارجون على القانون يعملون في الظلام، بالمعنيين الحرفي والمجازي، ويظهرون ويختفون بسرعة؛ أم من سيارة المرسيدس “الشبح”، المنزوعة النمرة(1)، والمجهولة الهوية تاليا، التي يبدو أن كبار الشبيحة يفضلونها في عملياتهم وتمييز أنفسهم؟ أم ربما من “تمديد الصلاحيات وتعريضها وتوسيعها”(2)، على نحو ما يجري تمديد الشخص وتعريضه، شبْحه، بأن يقف على طوله وذراعاه ممدودان على جانبيه؟ “الصلاحيات” هي التخويل الرسمي بعمل ما، و”التمديد والتوسيع والتعريض” هو ما يفترض أن الشبيحة يقومون به.1من المحتمل أن الكلمة دخلت التداول السوري في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، وبخاصة بعد التدخل السوري في لبنان عام 1976، وما تزامن معه من قفزة في التهريب من بلد مفرط الانفتاح كلبنان إلى بلد كان منغلقا اقتصاديا بإحكام كسورية. لكن الكلمة حازت انتشارا وطنيا بالتزامن مع أزمة وطنية كبرى وقعت قبل أكثر من ثلاثين عاما. ولقد اقتصر لقب الشبيحة حينها، وحتى تفجر الثورة السورية في منتصف آذار 2011، على شبان ذكور من منطقة الساحل السوري، علويو المولد، ورؤساؤهم من آل الأسد، وفي وقت لاحق من أسر نافذة أخرى: آل ديب (نسائب لبيت الأسد)، آل مخلوف (أولاد خال أبناء حافظ الأسد). وهم يعملون في التهريب (أدوات كهربائية، تبغ، مخدرات، خمور، آثار،…)، أو فرض الخوّات، ويتصفون بالخشونة والقسوة، وبالتبعية العمياء لرؤسائهم الذين يوصف واحدهم ب”المعلم”(3) أو “الخال”(4). فهم بذلك أقرب إلى منظمات المافيا، ومثلها هم معروفون من قبل أجهزة الحكم المركزية التي تغض النظر عنهم، والمحلية التي تتواطأ معهم، وتضمن لهم، الحصانة بحكم قرابة رؤسائهم، ولا تتجاسر حتى على الدفاع عن نفسها حين يحصل أن تتضارب المصالح(5).في ثمانينات القرن العشرين كان الشبيحة، المتمتعون بحصانة تامة، يتصرفون بحرية مطلقة في مدينة اللاذقية. يحصل أن يمتعوا أنفسهم بإجبار زبائن مقهى على الانبطاح تحت الطاولات، وصادف أن كان بينهم مرة المفكر السوري المرحوم إلياس مرقص؛ أو يقتلوا شابا رفض إهانة من أحدهم(6)، أو يتوسلوا التهديد للاستيلاء دونما مقابل أو بمقابل زهيد على أملاك اشتهوها لأنفسهم، أو يغتصب زعماءهم فتيات جميلات؛ أو يتولوا التحكيم بين شخصين مع نيل عمولة كبيرة ممن يفوز، وهو الأغنى طبعا(7). وضحايا الشبيحة متنوعون، غير قليل منهم علويون. تتكلم مرويات متواترة من بداية التسعينات عن اختطاف الشابة هالة عاقل، ثم اغتصبت وقتلت ورميت جثتها أمام منزل ذويها. وفي الفترة نفسها قتل الأستاذ الجامعي سمير غفر لأنه رفض إنجاح طالبة يبدو أنها محسوبة على شبيح كبير. وبما أن الشبيحة يقيمون في الأحياء العلوية أو المختلطة فإن أول أذاهم يصيب جوارهم. كان الشبيح أبو رماح يسخر من جيرانه في الحي في اللاذقية، قبل أن يغلق مدخله، وينصب فيه مراجيح لأطفاله و”شادرا” يستخدمه كمضافة(8). 2 أولى ملامح ظاهرة الشبيحة السورية أن الحدود بينها وبين أجهزة النظام مائعة. في أصل ذلك قرابة الدم التي تجمع معلميهم بالرئيس في نظام حكم شخصي (يوصف الرئيس بالمعلم أيضا) من جهة، وقرابة بنيوية تتمثل في شراكة الطرفين في الاعتباط و”التَبَلّي” و”السلبطة”(9). والأخيرة كلمة سورية شائعة، يتكثف فيما نمط ممارسة السلطة في “سورية الأسد”، وتمتزج فيها مدركات السلب (جذر سلب) واللبط (جذر لبط) والتسلط (جذر سلط). أما التبلّي فهو الاتهام الكاذب لشخص بأمر من شأنه أن يلحق به أذى شديدا، مثل أنه شتم الرئيس أو قال كلاما طائفيا(10).ولقد كانت “سرايا الدفاع” بدءا من النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين ولعقد بعده، أقرب شيء إلى ميليشيا لا يضبطها قانون، ويُنفق عليها بسخاء تمييزي من المال العام. وكان رفعت الأسد، قائدها حتى عام 1985، “شبيحا” بكل معنى الكلمة، رجلا شعبيا خشنا، عنيفا ومتهتكا وجشعا، لا نهاية لقسوته وفساده، وكان شبه محتكر لتجارة وتهريب الآثار من البلاد. كان رجل الغريزة والاندفاع مقابل أخيه حافظ الذي كان رجل الحساب والأناة. ومعلوم أن رفعت كان البطل المباشر لمذبحة حماة عام 1982، وقبلها لمذبحة سجن تدمر صيف 1980. أما حافظ فهو بطل كل الأشياء. ولعل التعذيب اليومي العشوائي للسجناء الإسلاميين طوال عشرين عاما في سجن تدمر هو المثال الأنسب على نمط البطولة الذي يشبهه.على كل حال كان يكفي أن تكون الأولوية العليا للنظام هي دوامه حتى يجري النظر إلى المجتمع المحكوم بريبة، أو يعتبر مصدرا للمخاطر يتعين الاحتراس منه. هذه النظرة ركن جوهري في عقيدة أجهزة الأمن السوري في الأزمنة الأسدية كلها. فإذا تقاطع ذلك مع سردية مظلومية تاريخية، منتشرة في البيئة العلوية التي خرج منها أكثر القادة الأمنيين في العهد الأسدي، وكثير من عموم رجال الأمن، صار مرجحًا أن تظهر عناصر ما دون دولتية في سلوك أجهزة الأمن، لطالما تظاهرت عبر التعامل الحقود والثأري مع المعارضين، العلويين منهم بقدر لا يقل عن غيرهم، ومع المجتمع ككل. صار متوقعًا أيضا أن يجنح رجالها في أوقات الشدة إلى التصرف كشبيحة. ولقد رأى السوريون والمهتمون بالشؤون السورية فيديوهات تظهر مجموعات المخابرات تتصرف بأسلوب الحملات التأديبية الاستعمارية، أو بالأسلوب الذي يميز المليشيات الطائفية في الحرب اللبنانية والحرب العراقية. فيديو البيضا من أشهرها(11). لكنه ليس الوحيد. يمتزج في مدرك الشبيحة الأصلي أربعة أشياء. أولها قرابة الدم والمذهب مع آل الحاكم. وثانيها نزعة عداء للمجتمع، تجعل من الشبيحة أداة صالحة لممارسة العنف المنظم وغير المنظم ضد السكان. ولعل العداء للمجتمع تحوير لنزعة معادية للسلطة والنظام الاجتماعي، منتشرة في أوساط المهمشين والأقليات، وذات محتوى ديمقراطي مبدئي، لكنها انقلبت في الزمن الأسدي إلى نزعة عدوانية محافظة، خادمة للاستبداد والتجزؤ الاجتماعي. وثالث سمات الشبيحة التبعية الشخصية لقادتهم، التي تسهل القرابة والولاء من أمرها. وأخيرا هناك الدافع الاقتصادي القوي. يعمل كثير من الشبيحة في التهريب(12) ، ويفيد بعض مصادر معلوماتي أنهم يفضلون سيارات المرسيدس الشبح، لصندوقها الكبير الذي يتسع لسلع استهلاكية ثمينة. وكان الشائع أن هذه السيارات مهربة من لبنان، وأن علامتها الفارقة تداعي مظهرها رغم حداثة تصنيعها، بسبب طيش الشبيحة في استخدامها، واستمتاعهم بالتشفيط بها، وربما لكونها مالا مسروقا في الأصل لم يتعب عليه.ويتوسل الشبيحة القوة للاستيلاء على موارد مادية أو منافذ مجزية للدخل: الموانئ مثلا. كان لرفعت الأسد ميناء خاص به في اللاذقية، لم يغلق إلا بعد تفجر الصراع بينه وبين أخيه الرئيس عام 1984. لكن بينما يجني زعماء الشبيحة ثروات مهولة، فإن عموم الشبيحة أناس محدودو الموارد، ولا يكاد أكثرهم يملك مؤهلات للعيش غير التشبيح. ويشتبه كثيرون أن مستوى تنمية منطقة الساحل متدهور من أجل إبقاء المنطقة، سكانها العلويون تحديدا، مصدرا لعضلات متدنية التأهيل تدافع عن النظام. إنهم “قوة حكم” (على نحو ما نقول “قوة عمل”) رخيصة الثمن.والشبيح النمطي متدني التعليم، ينحدر من بيئة اجتماعية مهمشة وفقيرة، فـ”أبناء المشايخ
(4) عدوان، سبق ذكره، ص 134. ويصف عدوان “الخال” بأنه “مظلة الشبيحة”، وهو “فوق القانون، ويكتسب هذه الصفة غالبا لأنه ابن أحد المسؤولين أو قريبه”. ص 138.(5) تفجر في اللاذقية عام 1993 صراع بين شبيحة فواز الأسد (ابن جميل الأسد) وشبيحة بيت ديب (بزعامة رباح ديب، أمه من بيت الأسد)، وأوقف بالنتيجة رباح ديب في سجن اللاذقية. لكن شبيحته هاجموا الفرع وخلصوا زعيمهم، وقتل بعض عناصر الشرطة حينها. أنوه إلى أنه بسبب قلة المصادر المكتوبة أعتمد في كثير من المعلومات الواردة هنا على معلومات أتاحها لي أصدقاء، وأقتبس المؤكد والمتواتر منها فحسب.(6) قتل الشاب حسان الأعسر عام 1994 لأنه دافع عن فتاة احتمت به من الشبيحة في حافلة نقل عام.(7) قارن مع: ميليشيات «الشبيحة».. قوات خاصة فوق القانون، جريدة الشرف الأوسط: http://aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11823&article=616865&feature=.(8) مقالة روزا ياسين حسن: عن الشبيحة وسادتهم وذاكرة بلون الخوف! http://www.aleftoday.info/content/عن-الشبّيحة-وسادتهم-وذاكرة-بلون-الخوف. تقول الكاتبة إنها أتت على سيرة أبي رماح تلميحا في وقت سابق للثورة، ولم تتجاسر حينها على ذكر اسمه.(9) يقول ممدوح عدوان، ولعله الكاتب السوري الوحيد الذي تكلم عن الشبيحة والتشبيح قبل الثورة: “والتشبيح كلمة ممتلئة بالمعاني، فهي مزيج من الزعرنة والسلبطة والتبلي، وهي كل ما يقفز فوق القانون علنا”، مصدر سبق ذكره، ص 135.(10) في صيف عام 1997، وكنت في معسكر تدريب عسكري جامعي صيفي، اتهم طالب بعثي ملازما يدربنا بالطائفية، لأنه قال شيئا طريفا عن الحماصنة! أمسكه من تلابيبه وزعق في وجهه: أنا من أمن القيادة القطرية! (11) الفيديو متاح على هذا الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=kVZk_VMWJsg.(12) على أن هناك (فرقًا) بين المهرب والشبيح. المهرب “زلمة ليل، شجاع يغامر ويخاطر وقد يصطدم بالدولة”، في حين أن الشبيحة “يستخدمون سيارة الدولة ويُهرِّبون في عز النهار وفي شارع مزدحم يعرقلون المرور فيه”. عدوان، سبق ذكره، ص 136. ويحيل هذا الفارق إلى الموقع الحصين للشبيحة في النظام. (13) بقيادته، هاجموا في وضح النهار شركة الهرم للصرافة في دمشق عام 2005، واستولوا على ما فيها من مال. وكانوا “يتبلّون” السجناء السياسيين في عدرا عام 2006. (14) ربط أحمد بيضون في غير عمل له بين المحسوبية والطائفية في النظام اللبناني. مثلا: مغامرات المغايرة: اللبنانيون طوائف وعربا وفينيقيين، الطبعة الأولى، دار النهار، بيروت، 2005؛ ص 20. (15) نشرة كلنا شركاء: http://all4syria.info/web/archives/19669.(16) لا ريب أن من شأن العسكرة المتسعة النطاق للثورة أن تغير الحال، إن باتجاه تراجع مساهمة الشبيحة، أو أخطر باتجاه تسليحهم.(17) عرف من ممولي الشبيحة في اللاذقية رجل الأعمال نزار أسعد. وقد شملته القائمة الثالثة من العقوبات (الأوروبية) التي صدرت في الثلث الأخير من آب 2011. وكذلك رجل الأعمال محمد جابر الذي قالت القائمة (الأوروبية) إنه مساعد العميد ماهر الأسد الخاص بـ”الشبيحة”، انظر الرابط: http://www.levantnews.com/index.php?option=com_content&view=article&id=8832:2011-08-24-15-25-04&catid=81:syria-politics-headlines&Itemid=55(18) كلنا شركاء: الرابط نفسه: http://all4syria.info/web/archives/19669.(19) ص 15 من التقرير المتاح على الرابط التالي: http://www.lccsyria.org/wp-content/uploads/2011/11/11.pdf(20) المصدر نفسه، ص 17. جدير بالذكر أن لاستباحة ممتلكات المواطنين غير سابقة تاريخية، أبرزها استباحة حماة في شباط 1982. (21) معلومات من صفحة Ismaeel Alhamed، وهو طبيب محترم من منطقة جبل الزاوية في إدلب، على الفيسبوك،https://www.facebook.com/Ismaeel.alhamed?ref=ts، يوم 25/8/2011. المبالغ تتراوح 25 ألف ومليون ليرة سورية. ويبدو أن هناك صناعة سمسرة مرتبطة بالأمر. من لا يدفعون يبقون قيد التوقيف حتى إشعار آخر.(22) في سياق حرب النظام الأولى ضد المجتمع السوري، عام 1980 وما بعد، كان عناصر سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد والوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر والفرقة الرابعة بقيادة شفيق فياض يضعون مسدساتهم على المقاعد أثناء تقديم امتحانات الشهادة الإعدادية (الصف التاسع) أو الثانوية (البكالوريا)، ويغشون علانية، فلا يجرؤ أحد على اعتراضهم. وبدءا من العام نفسه صارت تمنح علامات إضافية للكتائب الطلابية المسلحة المشاركة في حرب النظام، تسهل لهم الدخول إلى الكليات التي يرغبون، وكانوا بالطبع الأسوأ خلقا وعلما. ومنهم اليوم غير قليل من أساتذة الجامعات السورية. وكان الفنان على فرزات “أكل علقة” من سرايا الدفاع في ذلك الوقت لأنه رسم طالبا مظليا يهبط بمظلته على كلية الطب! (23) أرقام النشطاء السوريين، الصادرة عن “لجان التنسيق المحلية” بصورة خاصة، أوثق من أرقام الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية. وهم يعتمدون معايير صارمة في تعميم المعلومات، فوق ارتباطها الحي المتفوق على أية منظمات دولية، بالثورة في ميادينها الكثيرة. الثورة لا تمارس التشبيح الإعلامي. (24) تواتر الكلام على استعانة النظام برجال الأب الأمنيين، علي دوبا وأضرابه. لكن يصعب التيقن من صحة هذه المعلومات.