موسيقى وغرافيتي وفنون بصرية في إدلب و «الرجل البخاخ» مسحراتي الثورة
حازم الأمينريف إدلب. 17 آب 2012 لعل الفنون البصرية المختلفة أكثر ما أدهشت به الثورة السورية العالم، ولهذا الأمر أسبابه، فالنظام الذي جعل من «فنونه البصرية» أفقاً وحيداً لخيال الناس بمختلف شرائحهم على مدى عقود أربعة، لم يعد متمكناً من ضبط المشهد بفعل ما تسرب للسوريين من وسائل ووسائط اتصال، جلها غير شرعي، فشرع الناس منذ ما قبل الثورة بسنوات بالتخفف من الضوابط. مئات الآلاف من الصحون اللاقطة صارت تضخ صوراً مختلفة إلى عقول السوريين، وإلى مخيلاتهم، وما إن بدأت الثورة حتى انفجرت المشاهد التي خزنها الشباب في مخيلاتهم.على جدران بلدات إدلب «المحررة» بقايا من غرافيتي النظام، أي تلك العبارات التي تمجد القائد وتجعل من الحزب «مدرسة وأماً وأفقاً». لكن، أيضاً هناك الكثير الكثير من رسوم الثورة ومن عباراتها ومن صور ناشطيها الشهداء.يقول «الرجل البخاخ» في ريف إدلب: «قبل الثورة لم تكن جدراننا لنا، كانت لحزب البعث، اليوم حررنا الجدران وبقي علينا أن نحرر بلدنا». «الرجل البخاخ» الإدلبي يعرفه كل الناس في المدن والقرى هنا. إنه رجل أربعيني يملك محلاً لبيع الصحون اللاقطة، متوسط التعليم ولم يكن قبل الثورة يتخيل نفسه فناناً غرافيتياً على ما يحلو للصحافة الأجنبية تسميته. يقول: «أنا لست فناناً، أنا مجرد مشخبط ومازج ألوان. الثورة هي ما جعل عملي العادي فناً». و «الرجل البخاخ» في محافظة إدلب يتمنى على من يلتقيه من الصحافيين عدم ذكر اسمه، على رغم أن جميع سكان البلدة يعرفونه، لكنه يقول إن غموضاً، وإن كان كاذباً، يبقى ضرورياً لحماية شخصيته من الابتذال، وها هو اليوم يتعمد أن يكتب ويرسم على الجدران في الليل، موحياً بالغموض. اليوم وبعد أن انقضى وقت العمل السري والحراك المدني، صار «الرجل البخاخ» أقرب إلى شخصية المسحراتي الذي يعرفه كل سكان البلدة، لكنهم يقولون لأطفالهم إنهم لا يعرفونه.والحال أن المرء يمكنه من مراقبة خطوط الغرافيتي تعقب مشاعر الناس كلها، وتعقب مراحل الثورة السورية وحقباتها. فعندما كتب الرجل البخاخ عبارة: «اقتل من شئت فإن الفصل السابع آتٍ» كانت الثورة في حينها سلمية وكان السوريون يعتقدون أن المجتمع الدولي إلى جانبهم، وهذه ليست حالهم اليوم، ذاك أن الرجل قتل من قتل ولم يأتِ الفصل السابع. أما عندما كتب «الرجل البخاخ» على جدار في البلدة عبارة: «الثورة تذكرة دخول لا تذكرة خروج» فقد كانت الثورة بدأت بالانتقال إلى مرحلتها العسكرية وكان ناشطون مدنيون منها بدأوا بمغادرة سورية إلى تركيا، وقد أتبع الرجل البخاخ عبارته بأخرى تقول: «الثورة تُصنع هنا لا في تركيا»، عاكساً بذلك مرارة جماعية تنتاب سكان المناطق هنا نتيجة شعورهم بتصدر معارضة الخارج مشهد ثورتهم. ولعل للأطفال الحصة الأكبر، فتقريب فكرة التغيير من وراء الثورة اقتضت من «الرجل البخاخ» أن يرسم شخصيات كرتونية عالمية كـ «بينك بانتر» مبتسماً وحاملاً علم الثورة. أما شهداء البلدة فلا تتسع الجدران لحكاياتهم على ما قال «الرجل البخاخ» في سراقب، فاختار واحداً منهم يسميه أهل البلدة محمد حاف، وهو من أبرز شهداء البلدة، وخُصصت شـعارات كـثيـرة لـحكاياته الكثيرة. والغريب أن صناعة الشهيد على جدران سراقب تترافق مع رغبة في تظهير جوانب قد لا تكون منسجمة في شخصيته.يقول «الرجل البخاخ» إن الناس تبرعوا بجدرانهم، لا بل إنهم صاروا يشعرون بأن اختيار «الرجل البخاخ» جداراً يملكونه ليكتب أو يرسم عليه يمنحهم مقداراً من التفوق على غيرهم من جيرانهم، وذات يوم دخل الجيش النظامي إلى البلدة، وسبق دخوله بساعات «إشاعة صحيحة» عن دخوله، فقام السكان بطلي الجدران لإخفاء الرسوم والشعارات، لكن ذلك لم يعفهم من العقاب، فأقدم الجنود على إحراق المنازل والمحال التي على جدرانها طلاء يخفي شعارات.«لست أنا المبدع» يردد «الرجل البخاخ. «أنا رجل عادي وغير متعلم، وكان أن شعرت البلدة بحاجة إلى رجل يضع على الجدران أفكاراً تراودها فكنت أنا من تولى المهمة». و «الرجل البخاخ» لشدة تعلقه بالجدران صار يميز بين جدار وآخر لجهة انسجامه مع نوع من الغرافيتي.و «محمد حاف»، الشخصية الرئيسة في عمل «الرجل البخاخ» في سراقب حكاية، ذاك أن اسمه محمد ولكن «حاف» ليست كنيته وقد أضيفت العبارة إلى اسمه لتمييزه عن أخويه محمد سعيد ومحمد رياض. إنه محمد من دون اسم ثان، محمد حاف، ويقول «الرجل البخاخ»: «بطلنا بسيط وغير مركب إنه محمد… فقط محمد». و «حاف» في سراقب ليس فقط مادة للفن الغرافيتي فقد أنشدت له فرقة غناء محلية مؤلفة من أب وبناته الثلاث أغنية تبدأ تقول: «محمد حاف محمدنا… اشتقنالك يا محمد حاف. يا محمد بالسلميي وشو فينا عليت الصوت… صوتك بعدو غنيي نغنيها وما نهاب الـمـوت». هذه الأغنية بدورها تؤرخ لانتقال الحراك في البلدة من مرحلته السلمية التي كان فيها محمد حاف منشداً في التظاهرات، إلى مرحلته العسكرية التي قضى فيها الشاب باشتباك مع الجيش النظامي في أطراف البلدة.لكن العائلة السراقبية التي أطربت سراقب بأغانيها عن الثورة والحب، وعن شهداء البلدة، هي كما الكثير من أوجه النشاط الفني في هذه المرحلة في سورية، حبيسة جدران منازل محدودة يختارها الوالد ليُسمع عدداً محدوداً من ضيوفه ما ألف من أغانٍ وما غنته بناته منها، فيما يتولى ناشطون تسجيلها مع الإبقاء مقدار الإمكان على مصدرها مجهولاً، ذاك أن إدلب بظروفها الأمنية والاجتماعية أضيق من أن تتسع لعائلة ولمواهب تتعدى الإنشاد في التظاهرات. فما أنتجته العائلة من أغانٍ يبدو أكثر إتقاناً من تلك التي انجذب العالم لها في أناشيد الثورة السورية. فالأب ملحن وبناته الشابات درسن الإيقاع إلى جانب دراستهن اختصاصات في الأدب والعلوم الأخرى، وهن شديدات الحرص على الالتزام بمستويات الصوت انخفاضاً وصعوداً، والوالد من وراء عوده يتولى توزيع الأصوات.العائلة ليست أسيرة التظاهرة في غنائها، إذ إن الكثير من أغانيها للثورة لا تصلح للتظاهر، ثم إن كلماتها تنطوي على أبعاد تتجاوز ما يخاطب وجدان المتظاهر، ففيها خيبة ورجاء وحزن وفرح، تشكل ما هو أعقد من توظيفها في تظاهرة أو مواجهة.و «فن الثورة» بهذا المعنى يسعى إلى تجاوز الثورة للوصول إلى ما هو دائم ومستمر في الناس على ما يقول الوالد، الذي يشير إلى أنه بدأ الموسيقى متأثراً بالأغنية السياسية اليسارية بدءاً من سميح شقير وصولاً إلى مارسيل خليفة. ويقول «الآن أسعى إلى تجاوز الجوهر السياسي للأغنية إلى جوهر إنساني. الثورة في سورية إنسانية وليست سياسية».لكن ليس الغرافيتي وحده ما كشفت عنه الثورة من مواهب في سورية، فالناشطون المدنيون أبدوا تفوقاً غير معهود في توظيف وسائل الاتصال لنقل أخبار ثورتهم ومآسيهم إلى العالم. فعلوا ذلك في ظل عدم توافر شروط تقنية يعتقد المرء أن من المستحيل استعمال وسائل الاتصال من دونها. لا بل ما قام به هؤلاء بالنيابة عن وسائل الإعلام العربية والعالمية هو عمل هائل. فيقول أياد: «كان صعباً علينا أن نصور وأن نضع المواد على يوتيوب في ظل عدم توافر «براوزر» مستقل عن الشبكة الداخلية الضعيفة، لكننا كنا نلجأ إلى ضغط المواد المصورة فتصل ضعيفة النوعية. أن تصل صورنا مشوشة خير من أن لا تصل».وللناشطين المدنيين في هوامش العمل العسكري ملامح يمكن تمييزهم عبرها عن الناشطين في ساحات القتال. معظمهم كان سبق أبناء بلدته، حتى المسلحين منهم، إلى التظاهرات، أيام كانت الثورة تظاهرات يومية، وهم انتقلوا اليوم من التظاهر إلى العمل الحقوقي في إحصاء القتلى وتوثيق الانتهاكات، وهم اليوم من يستقبل الصحافيين مجاناً ويستضيفونهم في مراكزهم ويؤمنون لهم خطوط الإنترنت ووسائل الاتصال الأخرى، ويمكن محدودي المعرفة التقنية من الصحافيين الاستفادة من الخبرات الواسعة لدى هؤلاء الشباب في هذا المجال.أما ما يبدو غير عادل في قضية هؤلاء فيتمثل في أن وسائل إعلام إقليمية ودولية صارت تعتمد على موادهم كصور وأفلام خاصة أنجزها لها النشطاء من دون أجر، فقط العائد هو عرض قضيتهم. لا بل إن مزيداً من الشروط الفنية والتحريرية صارت تفرضها القنوات على المواد المجانية التي يرسلها لها الناشطون. يقول أياد: «لا بأس فما يعنينا الآن ليس عائداً نتقاضاه على عملنا… يعنينا الآن فقط أن نوصل قضيتنا إلى العالم». المصدر: http://alhayat.com/Details/427057