في الدولة الدينية

December 20, 2012

غسان زكريا16.12.2012 لا شك أن هذا الموضوع لا يُجاب عنه فى بضع مئات من الكلمات، إلا أن البحث فى هذا العنوان يبدو اليوم جوهريا وأساسيا أكثر من أى وقت مضى، مع وصول الصراع «الإسلامى ــ العلمانى» إلى مرحلة قاسية ومقلقة. ولا يتوقف هذا الصراع على مصر وحدها، بل هو اليوم حاضر ومؤثر فى تونس ما بعد الثورة، وفى أوساط المعارضة السورية، المسلحة منها والسلمية. ●●● يشير اصطلاح «علمانية» فى معناه الأصلى إلى عدم استخدام سلطة الدولة فى فرض الدين على المجتمع، وبات المعنى الشائع للاصطلاح اليوم هو العنوان العريض «فصل الدين عن الدولة»، مما يعنى عدم الرجوع إلى دين من الأديان كمصدر مباشر للتشريع. ويقوم ذلك على افتراض أن الأديان تفرض قيودا كبيرة على الحريات العامة، كحرية المعتقد واختيار نمط العيش. ويتم الربط خطأ بين كل من العلمانية والديمقراطية والانتماء اليسارى ــ القومى. على أن الواقع التأريخى يؤكد عدم صحة هذا الربط، فالعلمانية يمكن أن تكون مستبدة بشكل متوحش (كما فى نموذج ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية أو الاتحاد السوفييتى الشيوعى) ويمكن أن تكون أيضا يمينية التوجه. من نافلة القول إن مفهوم العلمانية آتٍ من الغرب، وقد كانت العلمانية هناك قاعدة ضرورية للانتقال بأوروبا من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، حيث اتسمت العصور الوسطى بسلطة الفاتيكان المطلقة، وهى التى أفرزت نقاطا سوداء فى التاريخ الغربى من الحروب الهمجية باسم الدين، إلى محاكم التفتيش وحرق الناس على الشبهة. ●●● فى المقابل، لم يحدث أن حكمت مؤسسة دينية صرفة المنطقة العربية، بل إن المسجد، إذا اعتبرناه المعبِّر عن المؤسسة الدينية، كان خلال العهدين الأموى والعباسى، ساحة للمعارضة بمختلف أشكالها لا للدولة، وإن الواقع التأريخى يقول إن المعارضة السياسية والفكرية لمؤسسة الخلافة الأموية ثم العباسية هى من أعطت المسجد أو الجامع طبيعة أقرب إلى المؤسسة. ينحصر العهد الذى حُكِمَت خلاله الأمة العربية ــ الإسلامية من المسجد فى سنوات حكم الخلفاء الراشدين، حيث كانوا يقومون بمهمة الحكم فى مسجد النبى (ص) فى المدينة المنورة اقتداء به، صلى الله عليه وسلم، وقد كان اختيارهم هذا رسما لصيغة الحكم المأمولة فى الإسلام، وهى مؤسسة حكم تتجاوز بساطة الصيغة اللقاحية الجاهلية، وتتجنب فى الوقت نفسه جور وعسف صيغة حكم «كسرى وقيصر». ●●● يروى المؤرخ الكبير إسماعيل بن كثير فى موسوعته التأريخية «البداية والنهاية» أن الرسول (ص) أشار يوم بدر إلى المكان الذى سيُعسكِر عنده جيش المسلمين، فسأله الحباب بن المنذر، وكان محاربا عظيما: «يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال الرسول (ص): بل هو الرأى والحرب والمكيدة»، فأشار الحباب بن المنذر بأن ينزل الجيش فى موضع آخر يمنحهم المزيد من الامتياز على العدو، فأجابه الرسول (ص): «قد أشرت بالرأى». (ج3، ص263، مكتبة الإيمان). إلى جانب هذه الحادثة العميقة الدلالة، تزخر كتب السيرة النبوية بالقرارات السياسية والعسكرية التى اتخذها النبى (ص) بعد التشاور مع أصحاب الخبرة، وبناء على الظرف الموضوعى. فقد قبل النبى (ص) بتغيير افتتاح وثيقة صلح الحديبية من «بسم الله الرحمن الرحيم» إلى «باسمك اللهم»، كما قبِل أن يُكتب اسمه «محمد بن عبدالله» عوضا عن «محمد رسول الله». كما رفض أن يقطع بمسألة تلقيح الشجر مجيبا سائليه: «أنتم أعلم بشئون دنياكم». ثم قبل فكرة حفر الخندق التى اقترحها سلمان الفارسى (ر) لرد الغزاة. لم يكن للدين أو للشريعة دور فى أى من تلك القرارات الحاسمة فى مسيرة الدعوة الإسلامية. وبعد فتح مكة المكرَّمة، أبقى النبى (ص) على المدينة المنورة حاضرة سياسية للدولة الإسلامية الوليدة، مكرِّسا مكة المكرمة مدينة مقدَّسة يدخلها المؤمنون ليتطهروا من ذنوبهم ويغسلوا أرواحهم بعيدا عن فنون السياسة. وإثر وفاة النبى (ص)، لم تتدخل الشريعة فى اختيار الخليفة الأول، أبى بكر الصديق (ر)، بل تم ذلك الاختيار بناء على اقتناع النخبة من الصحابة (ر) بضرورة أن يتولى الأمرَ رجل من قريش، يكون أهلا لضبط الفوضى التى سيولدها ارتداد العديدين عن الإسلام نتيجة انقطاع الوحى. وعندما اتسعت المساحة الجغرافية للدولة، واستقر الأمر للإسلام، قام الخليفة الثانى، عمر بن الخطاب (ر)، بتعطيل سهم من أسهم الزكاة المنصوص عليها فى القرآن الكريم، نتيجة تغيُّر الظرف الموضوعى، وكان ذلك قرارا سياسيا لا شرعيا. ثم دفع الخليفة الثالث عثمان بن عفان (ر) حياته ثمنا لقرارات سياسية لم ترتبط بالشريعة أو النصوص الدينية. أما الخليفة الرابع على بن أبى طالب (ك)، فقد انجرَّ إلى حرب أهلية لم تُذكَر فيها كلمة «الإسلام» ولا كلمة «الشريعة». ولا نظن أننا بحاجة لبيان ابتعاد الخلافة الأموية والعباسية عن التزام الشريعة. ●●● لم تكن الدولة العربية ــ الإسلامية دولة دينية خالصة يوما، حتى فى سنوات تأسيسها. وتلك من سنن التاريخ، فالدين مطلق ومجرد، أما السياسة فتفصيلية ومجسدة. إن تلك الحقيقية التأريخية الواضحة تجعل الحديث عن دولة دينية وهما يخفى وراءه ما يخفيه. المصدر: الشروق