هل يمكن بناء مؤسَّسة سياسيّة مختلفة؟

February 21, 2013

حازم نهار21.02.2013 إن بناء الحزب السياسي لا يستجيب للرغبات والإرادات وحسب، بل هو أمرٌ في غاية التعقيد، وله معاييره وشروطه، التي يفترض العناية بها وإعطاؤها الأولوية على حساب الاهتمام بالمهرجانات الإعلامية الصاخبة.يحاول البعض الهروب من صيغة “الحزب السياسي” إلى صيغة “التيار السياسي”، أو ما يشبهها، ربما بسبب الرغبة في تخفيف حدة الالتزام والواجبات والرقابة، أو لأن الصورة غير واضحة في أذهان المؤسِّسين. ويسعى البعض الآخر إلى التخفيف من حضور السياسة لصالح العمل المدني، وكأن هذا الأخير واجباته ومستلزماته أقل من العمل السياسي!في الحقيقة، لا فرق بين هذه التشكيلات من حيث كونها مؤسسات للعمل الجماعي، وإن حضور السياسة الكبير أو القليل في أي مؤسسة لا يغيِّر من طبيعة الشروط الأساسية المطلوبة لبنائها.لا يخفى على أحد أن بناء أي مؤسسة سياسية أو مدنية هو عملية تراكمية مستمرة، ولا يمكن القول في أي لحظة أن بناء المؤسسة قد اكتمل وانتهى. لكن كل مؤسسة تحتاج إلى الحد الأدنى من الأساسيات الضرورية كي نقول إنها موجودة على الأقل، والتي تتمثل بوجود أرضية فكرية جامعة نسبياً بين أعضائها، ونظام داخلي يعبر عن القانون الذي تستوحى منه الحقوق والواجبات وآليات العمل، إلى جانب رؤية سياسية مرحلية وعامة، وهيئة قيادية منتخبة تدير حياة المؤسسة وعلاقاتها وفقاً لقانونها الداخلي. لا يكفي إذن أن يجتمع بعض الأفراد في فندق ما ليقرروا إنشاء مؤسسة سياسية استناداً لرغبات ذاتية، فلحظة الإعلان عن مؤسسة ما تعني أن الحوار العميق في الجوانب كافة بين أعضائه قد وصل إلى درجة من النضج تتطلب اندراجهم في تشكيل سياسي واحد، وهي أيضاً اللحظة التي يبدأ فيها عملهم على الصعد كافة. أما العمل العشوائي السائد فيتجه نحو الإعلان عن تشكيلات سياسية ومدنية دون تعب أو جهد، لتصبح لحظة الإعلان هي الأساس وما عداها فارغ لا قيمة له، فلا قيمة للحوار ما قبل الإعلان ولا أهمية للعمل والبناء بعده.كانت التشكيلات السياسية خلال العامين المنصرمين أقرب إلى الدكاكين منها إلى المؤسسات السياسية الحديثة، بل إن تجارب المجتمع الأهلي السوري كانت أنضج في أدائها وممارساتها من هذه الدكاكين.العيوب الموجودة أكثر من أن تحصى، لكنني أذكر هنا بعضاً منها، بحسب قراءتي الشخصية، أملاً في الاستفادة منها: 1- افتقاد الرؤية السياسية الواضحة: ولذلك تكثر الخلافات بين أعضاء التشكيل السياسي بعد كل تصريح إعلامي لأحد الأعضاء، ويصبح همهم إجراء الترقيعات المناسبة بعد التصريحات المعلنة. الرؤية السياسية تشكل مرجعية لأعضاء الحزب، وإلا فإن كل فرد يستطيع ببساطة الادعاء أنه يتكلم باسم الحزب.2- الفقر الفكري: عندما لا يوجد أرضية فكرية، ويتم الاكتفاء بالتصريحات الإعلامية أو بحفنة “بوستات” فإن مسار المؤسسة وخطها السياسي، إن وجد، سيكون في مهب الريح، يميل مع اتجاه الريح، وتصبح المسيرة السياسية قائمة على “النطوطة” ولا تبعث على الطمأنينة.3- ضحالة في الإدارة والتنظيم وحضور القانون: فعندما لا يكون هناك قانون داخلي للحقوق والواجبات والعلاقة بين الهيئات وتحديد لمهام الأعضاء كافة، سيكون كل شيء خاضعاً للمزاج والحب والكره الشخصي، وتصبح الحياة الداخلية للمؤسسة قائمة على “الشللية”، وليس على العلاقات المدنية الحديثة.4- اختزال المؤسسة السياسية: وهذا يحدث عندما نرى بعض الأعضاء يختزلون المؤسسة في شخوصهم، ولسان حال كل منهم يقول “أنا المؤسسة”. ربما لأنهم لا يدركون أن هذا الاختزال تعبير عن الفشل الشخصي وفشل المؤسسة في آن معاً. فعندما نرى فرداً يختزل مؤسسة، أو مؤسسة ترضى أن تكون مختزلة في حفنة أفراد، فإن الجميع سيرتطم رأسه في الحائط عاجلاً أم آجلاً.5- الإدارة الإقطاعية: إذ نلاحظ أن كل مؤسسة تحولت ببساطة إلى إقطاعية يملكها البعض، حتى أصبح قانون المؤسسة هو قانونهم الشخصي يحدِّدون ما يريدون ويخترعون القوانين الاستثنائية ولجان الطوارئ ويرسمون الشرعية والعضوية استناداً لما يتوافق مع ذواتهم ومصالحهم. عندما يدير “القيِّمون” أو “الملاك” مؤسستهم بعقلية “الإقطاعي”، لا بعقلية القائد السياسي، علينا أن نعلم أن هذه المؤسسة فاشلة، وستخرج من حفرة لتقع في غيرها.6- التحكم المالي: المال ضروري لنمو أي مؤسسة سياسية، لكن القيِّم على المال، سيتحول من عضو في المؤسسة إلى “والي” ينشد الولاءات ويبني علاقات الاستزلام، حتى لو كان من الفقراء سياسياً وفكرياً، في حال لم يكن هناك وضوح في مصادر المال وطرائق صرفه والرقابة عليه. كذلك، عندما يكون المال الوارد للمؤسسة محصوراً بحفنة أفراد، وفي سرية غير مبررة، وفي غياب قانون مالي وهيئة مشرفة، فإنه لا يوجد ما يمنع هؤلاء الأفراد من استخدام هذه الميزة في التأثير على القرار السياسي.7- ضمور الأخلاق السياسية: إذ مهما كانت القوانين الناظمة للمؤسسة السياسة فعالة وحاضرة، سيبقى جزء من حياتها يتطلب حضور الأخلاق السياسية، وهذه لها معنيان متلازمان، أولهما هو الأخلاق الأساسية بالمعنى المتعارف عليه، كالصدق والتواضع والأمانة والإخلاص، وثانيهما هو الأخلاق المعبرة عن التقاليد السياسية الحديثة، وهذه تتطلب معرفةً وتدريباً مستمرين. للأسف، فإن الكذب والافتراء شائعان في الحياة السياسة، وكثيراً ما نتلمس أن عوامل الحسد والغيرة تدفع البعض نحو اتباع آليات التشهير بالمنافسين أو إرهاق أنفسهم في إبداع كافة الوسائل والمؤامرات لاستبعاد “المشاكسين”.8- اختلال مصادر الشرعية: فقد سمحت الثورة لبعض الأفراد بالحصول على عدد من المكتسبات التي يعتمدون عليها في فرض وجودهم وشرعيتهم، خاصة ثالوث المال والإعلام والعلاقات الخارجية، ويعتقد هؤلاء أن هذه المكاسب تمنحهم أفضلية في المجالات كافة. علينا ألا نغتر بالضجيج الإعلامي، وبالصور الملتقطة مع الوزراء والسفراء، ففي المآل ستذهب هذه القشور التي، في الغالب الأعم، تغطي الهشاشة الفكرية والأمية السياسية والعجز الإداري.9- اختلال مبدأ المساواة بين الأعضاء: أعضاء أي مؤسسة سياسية متساوون في العضوية، ومختلفون من حيث إمكانياتهم الشخصية، وهذا يفترض تساوي الأعضاء من جهة في الحقوق والواجبات، فلا يجوز التمييز بينهم استناداً لمبدأ “الأعضاء المؤسسين” أو لمبدأ “الأقدمية” في الانضمام للمؤسسة. ومن جهة أخرى يتطلب تساوي الأعضاء في “المعطيات”، لأن هذا هو ما يسمح باتخاذ القرارات الصائبة، وإلا فإن كل عضو سيحدِّد آراءه استناداً للمعطيات المتوافرة لديه شخصياً وحسب، ومفتاح التساوي في “المعطيات” هو في الحياة الداخلية القائمة على الحوار حول مختلف القضايا.10- العيوب الشخصية: العمل السياسي من أعقد الأعمال البشرية، ويحتاج إلى إعادة تأهيل الذات والاقتناع بضرورة التعلم، ومن هنا كان يقال عن الحزب السياسي أنه مؤسسة تربوية إلى جانب كونه مؤسسة سياسية. لذا ليس من الحسن الحفاظ على الذات وعيوبها في أي عمل جماعي، فكلٌ منا تلميذٌ يتعلم وأستاذٌ يعلم في الوقت ذاته. من جانب آخر، ليس من الضروري أن يكون “الصناعي الكبير” و”التاجر الكبير” و”الطبيب الكبير” و”الاقتصادي الكبير”.. من العارفين بالسياسة وشؤونها، لكنهم يمكن أن يصبحوا كذلك إن اقتنعوا بضرورة التعلّم. تلك بعض ملامح التجربة الواقعية كما أراها، وهي تحتاج بالتأكيد إلى دراسات تفصيلية معمقة، فهذا أحد الأبواب التي تسمح بإنتاج تجارب جديدة أكثر جدية وأقل أمراضاً وأعظم قدرة على الفعل والاستمرار. المصدر: زمان الوصل