خصوبة

خصوبة

أغسطس 23, 2022

تكاد عينا تغريد تخرجان من محجريهما، وهي تجلس أمام حاسوبها في العمل، تطالع ردود الأفعال على بضع كلمات، قلبت العالم الافتراضي حولها، لأنها عبّرت عن حالها وحال الكثيرات من بنات جنسها، حين كتبت:

“لم أعد خصبة يا أمي…

لقد كُنب على مؤخرتي عبارة (منتهية الصلاحية).

حتى أولادي الذين ألقيتهم، في مجاري الصرف الصحي، لم يشفعوا لي”.

فوجئت بحجم التعاطف المبطن بالسخرية، وعروض الزواج أو العلاقات العابرة، التي لن تحمل معها همّ التورط  بمولودٍ، كنتيجة محتملة لذلك، تجعل حياتها صعبة، وتضعها في مواضع الشبهة، أو تُعرضها للأقاويل.

كانت دهشتها أن بعض التعليقات، وردتها من نساء مثلها، يعرفن  تماماً معنى أن تُركن الأشياء على الرف، وتصبح غير ذات قيمة، تفوق صدمتها بتفكير الأغلبية  بها بهذا الشكل. 

حيث قمن بتوبيخها على منشورها، معتبراتٍ أنّ ما قالته، أمر مشين يسيء إليها، واستخدمن كلمات مثل: الفضيحة، العار، وقلة الأدب، لتتصدى لهن نساء أخريات، أخذن على عاتقهن مسؤولية الدفاع عن المرأة، فألقين باللائمة على المجتمع، الذي يجعل منها وعاءً لحمل الأطفال، وماكينة للولادة، دون أي اعتبار لمشاعرها أو صحتها، متهمات الرجال بتحميل المرأة فوق طاقتها، ومطالبتها أن تلعب كل الأدوار، ونسيان دورها الأساسي كإنسان يحق لها الحياة، والإبداع، والنهوض بالمجتمع مع الرجل، دون أن تلصق بها مهمة الحمل والإنجاب، كخيار وحيد، وتُنزع عنها قيمتها وأهميتها بدون تلك المهمة.

الأمر الذي جعل التعليقات، تتحول إلى معركة بين النسويات من جهة، ومن يرون أن مهمة المرأة منوطة بالحمل والولادة، وما شابه ذلك، من جهة أخرى.

غامت الكلمات تحت عيني تغريد، وهي تحاول أن تبعد دموعها -التي تبلل شاشة الهاتف- بيديها، كما تفعل (مساحات) الزجاج عن واجهة السيارات، وكان هاتفها يصدر أصواتاً متسارعة، كقلب يكاد يفقد إيقاعه.

-هل يستحق الأمر كلّ هذا؟! تساءلت تغريد، ثم خرجت إلى الشارع تستجدي بعض الهواء.

شاركتها السماء دموعها، حتى تحولت إلى خرقة مبللة، تقطر المياه من كل جوانبها.

جرّت أقدامها المثقلة بماء المطر، بعد أن تسللت القطرات داخل حذائها، ولم تكن تدري كم من الوقت مشت قبل أن تصل إلى منزلها.

نزعت عنها كل ثيابها، وانسلت تحت الغطاء في محاولة لنيل بعض الدفء، وكانت التعليقات ما تزال تصعد وتهبط أمام عينيها، كالانطباع الذي تحدثه لعبة كاندي كراش، حتى بعد إغلاق اللعبة.

بدأ جسدها بالغليان، وهي تشعر أنها في قاع مرجل، تشتعل النار تحته وحوله دون توقف.

تذكرت كيف بدأت مرحلة اليأس كما يسمونها، بتغيرات واضحة في مزاجها وحرارتها، حيث كانت تشعر بالتعب كمن يعاني من نزلة برد حادة، أو حمى تقوم على إيقاد جسدها.

حدثتها جدتها يوماً عن إحساس الميت حين يقومون بغسله (طاسة سخنة، وطاسة باردة)، وفكرت هل يشعر الموتى حقاً بعد أن تغادر أرواحهم!

إن روحها على وشك أن تغادرها، لكن أي روح هي؟ ما رقمها؟

لطالما سمعت أصدقاءها وصديقاتها يقولون لها، أنها مثل القطط  بسبعة أرواح، تستبدلهم كلّما تعرضت لمرض أو حادثةٍ تودي إلى الموت، أو عانت من تبعات حب غير متكافئ يهزم أنوثتها، وهمهمت هل ستنجو اليوم؟، ثم تذكرتهم واحداً تلو الآخر، الرجال الذين غدروا بها، ثم توقف عقلها عنده، كانت تقول له أنه روحها.

كان جهاد الحب الذي جاءها، وهي تحمل لقب عانس، بكل ما جره هذا اللقب عليها، من اضطراب وقلق، وخوف من الغد، فأعاد لها ثقتها بالحياة من جديد، أراد أن تنجب له خمسة أطفال، فكر بأسمائهم جميعاً، وقرر ماذا عليهم أن يكونوا في المستقبل، وهي تسمع لهاثه خلف أفكاره المحلقة، حول العائلة ومجدها وتبتسم، وتلاحظ  كيف يمط الحروف فوق شفتيه وهو يلفظ اسمه الذي يرافق أسماءهم، ويشعر بالفخر بهم قبل أن يولدوا، لأنهم صنيعته، وإنتاجه الذي سيصدره للعالم.

لكن حلمه تلاشى بعد سنتين من الزواج، وشعر باليأس بعد أن جرّب كل الوسائل التي تساعدهما على الإنجاب، حتى الطرق التي لا علاقة لها بالطب، ولم يكن كلام الأطباء وتأكيداتهم على عدم وجود أي خلل أو شكوى تمنعهما من الإنجاب، ليشكل رادعاً أخلاقياً له، وتلاشى حبه مثلما تلاشى حلمه في الامتداد عبر الزمن والأجيال، وقدم لها ورقة الطلاق، كمكافأة نهاية الخدمة.

كانت الحمى تزداد حدّة، والعرق يتصبب من جسدها، حين بدأت خيالات أطفالها المحتملين تتراقص أمام عينيها، لكن من أين جاؤوا! لقد كانت تلقي بهم كلّ شهرٍ، في مجاري الصرف الصحي، دون أن تعرف كيف سيكون شكل أصابعهم، أو لون أعينهم.

هي الآن لم تعد عاقراً، لكنها أيضاً فقدت الأمل باحتمال حدوث معجزة، لقد توقف النهر عن الجريان، وماتت الأسماك الملونة، بعد أن جف قاع النهر.

تفتح عينيها فتجد جهاد يمد لها ذراعيه، لتلقي بنفسها بين أحضانه، لكنها تسقط في كلّ مرة تحاول فيها الوصول إليه.

تقف على عتبة خيالاتها، وتتذكر أنه تركها مع ورقة مبهمة، لوّح بها محضر المحكمة أمامها، طالباً منها توقيعها على الاستلام.

وتذكرت كيف شغلها الألم والحزن، ثم قلة المعرفة، عن المطالبة بحقها، ضد الطلاق بالإرادة المنفردة، وها هي الآن تحاول الإمساك بطيفه لتشعر بالاكتمال، لأنها تعلمت منذ الصغر، من أهلها ومجتمعها، أن تعتاد على الشعور بالنقص، بدون رجل، رجل تنتظره ليحملها على جواده الأبيض إلى بيته، وتنتظره ليعود من عمله، ثم ليحدد لها طريقة حياتها.

تعلمت كيف تمتهن الانتظار، وكيف تخاف أن يتجاوزها القطار، قطار الزمن والزواج.

بعد خمسة أيام، كانت فيها تغريد أسيرة هلوسات الحمى التي أنهكتها، وأعادت شريط ذكريتها، عادت من جديد إلى الحياة، وهي تمسك بالروح السابعة… ربما، فهي لم تعد تهتم بعدّ الأرواح التي تسكنها، كان همها، أن تحيا بشكل صحيح، وتأخذ دورها الذي تحدده هي، ولا تستجديه من أحد.

دلال لوقا