العدالة الإنتقالية في سوريا
في أيار 2013 ، وجدت سوريا نفسها في خضم ثورة عنيفة تتزايد تعقيداً فقد تجاوز عدد القتلى 70 ألفاً، مع عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين والمحتجزين في مراكز الاعتقال، حيث أصبح التعذيب والانتهاك روتينياً وأخرج هذا العنف الملايين من السوريين من منازلهم ومجتمعاتهم، إذ يُقدَّر أن 13 مليون سوري اضطروا إلى اللجوء إلى بلدان مجاورة، فيما هُجِّر ملايين غيرهم داخل سوريا.
بدأت ثورة سوريا في شباط 2011 ، حين خرج محتجون إلى الشوارع للمطالبة بنهاية لحالات انتهاك السلطة والقمع السياسي التي سادت مجتمعهم لعقود من الزمن، وردّت قوات الأمن الحكومية بعنفٍ وتهديدٍ واعتقالات وفي الشهور والسنوات التالية، استمرّ الآلاف في التظاهر في مدن سوريا كلها، وتصاعد عنف المواجهات، ولا تزال الأخطار التي تتهدد المدنيين تتزايد يوماً بعد يوم.
من هذه الخلفية، يعالج هذا الكتيّب قضيةً ترتبط بشكل وثيق بتحقيق سلامٍ مستدام، وهو العدالة الانتقالية فالسلام المستقر والمستدام في سوريا، الخاضعة لسيادة القانون، يتطلب عدالة شاملةً وعملية محاسبة للقضاء على ثقافة الإفلات من العقاب التي سمحت للانتهاكات بالاستمرار من دون رادع لعقودٍ من الزمن.
يعي السوريّون تماماً كلفةَ الإفلات من العقاب، فالذكريات والتداعيات الخاصة بالمجازر والمواجهات السياسية العنيفة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لا تزال في الذاكرة واليومَ ثمة تصميمٌ متزايد على مواجهة تاريخ الإفلات من العقاب في سوريا وضمان عدم السماح له بالاستمرار في تقويض السلام والاستقرار المحتملَين في البلاد فالعدالة، وهي نقيض الإفلات من العقاب، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال عملية وطنية يتم التخطيط والتنسيق لها جيداً بعيداً عن عدالة المنتصر والأفعال المثيرة لانقسام أكبر والمتعلقة بالانتقام والثأر.
إن العدالة الانتقالية تمثل مفهوما أوسع بكثير من العدالة الجنائية فالمساءلة الجنائية الفردية تلعب دوراً رئيسياً في عملية العدالة الانتقالية، لكن جوانب أخرى من المساءلة هي أيضاً عوامل حاسمة لبلوغ الأهداف الأوسع للعملية ويمكن أن تشمل هذه الجوانب عملياتٍ تتعلق بتقصي الحقائق أو كشف الحقيقة لتسليط الضوء على فترة محددة من القمع من أجل توفير فهم أوسع للثقافة السياسية ودور مؤسسات محددة، وإحياء لذكرى الضحايا، واعتذارات رسمية، من بين أمور أخرى عديدة.
ولأنه لا يمكن لمجتمعين أن يتطابقا، لا يمكن لعمليتين من العدالة الانتقالية أن تكونا متماثلتين فالعملية الشاملة التي يمكن لكل مجتمع تطبيقها في نهاية المطاف يمكن أن تتكون من عدد من الآليات التي يجب أن تُصمَّم لتلبية أهدافٍ محددة ضمن سياق محدد لمجتمع انتقالي معين ويمكن أن تشمل هذه الآليات مساءلة المسؤولين مباشرة عن الجرائم، وكذلك الأشخاص الذين أعطوا الأوامر لارتكاب الجرائم والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان أو شجعوا عليها، والمؤسسات التي سهّلت تلك الممارسات.
وفي هذا السياق لا يمكن إلا للسوريين أن يصمموا بأنفسهم عملية العدالة الانتقالية في سوريا وينفذوها بحيث يشارك الآلاف من النشطاء السوريين والصحفيين والأفراد بالفعل في التحضير لتلك العملية، من خلال توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وتقديم الدعم للضحايا والتخطيط لإصلاح المؤسسات والتشريعات ويهدف هذا الكتيب إلى مساعدتهم على القيام بهذه المهمة.