سياسيّو المعارضة السورية… ومثقّفُوها : شعبويّة سياسية وبؤسٌ معرفيّ

سياسيّو المعارضة السورية… ومثقّفُوها : شعبويّة سياسية وبؤسٌ معرفيّ

يناير 9, 2013

محمد حيان السمان07.01.2013 بات واضحاً اليوم أن الثورة السورية, كبقيّة ثورات الربيع العربي, قد فاجأت النخبَ السياسية والثقافية, التي صارت فيما بعد تنطق باسم الثورة, وتعتاش على دماءِ ولحومِ أحرارها وهم يواجهون بصدورهم العارية توحشَ النظام الفاشي طلباً للحرية. لا يقتصر ملمح المفاجأة على التوقيت وحجم الإصرار والشجاعة التي امتاز بها جمهور الثورة وناشطوها الميدانيون, ولا على الجذرية التي اتسمت بها مطالب الحراك وأهدافه الأساسية التي أطلقته, وإنما في أشكال التعبير عن كل ذلك, وطبيعة الوسائل المستخدَمة من قبل المجتمع المدني وهيئاته الشعبية خلال تلك المواجهات. وأعني بذلك – تحديداً- السمة السلمية المدنية للثورة, وما رافقها من تعبيرات وإبداعات وشعارات استلهمت أروع ما في المخزون الحضاري والثقافي للأمة في تحديداتها القومية والإنسانية.كانت السلمية, بوصفها التعبير العفويّ عن نزوع الجماهير إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بمفرداتها البسيطة ودلالاتها الجذرية, عنصرَ إرباك لهذه النخب التي, لطول عهدها بالفكر الواحديّ و التمترس الإيديولوجي وتضخّم الأنا (العارفة), لم تألف التفاعل مع فضاء سياسي واجتماعي مدني ديمقراطي متعدد, تصنعه الثورة ساعة إثر ساعة ويوماً بعد يوم, ويرتقي بالممارسة السياسية من منطق الصفقة والمناورة والتلفيق , إلى عمل جماعي تراكمي متناغم, مسرحه المجال العام لا الغرف المغلقة والمؤتمرات البليدة. يتجاوز المحرمات التي كرسها الاستبداد, ويقطع مع ثوابت الإيديولوجيات وحساباتها الضيقة, ويتطلع إلى مستقبل يعيد للمجتمع فاعليته السياسية والثقافية الحرة, وللمواطن دوره كعنصر أساسي في العلاقة بين الدولة والسياسة والمجتمع.هذه الهوة (البنيوية) متعددة المستويات, بين الحراك الشعبي المدني وبين ( معظم ) نخب المعارضة السياسية, تفسّر التخبط والتمزق والخلافات السقيمة التي وسمت عمل المعارضة السورية منذ اجتماعاتها الأولى في (أنطاليا ) وحتى آخر اجتماع لها في الدوحة لاستيلاد ائتلافها العتيد. إن ثورة تعبر عن تطلعات شعبٍ بأكمله نحو الحرية والعدالة والدولة الديمقراطية الحديثة, لا يمكن أن تجد تمثيلها السياسي الحقيقي في نخب بائدة الوعي متبلدة الروح, لا تكف عن استبطان حلم الظفر بكرسي السلطة كغاية بحد ذاته, والسعي المحموم للحصول على حصة مجزية من غنيمة الحدث التاريخي الذي لم تصنعه النخب , ولا شاركت في إطلاقه, بل لم يستوعب بعض أعيانها أبعادَه الجذرية داخل الوعي والتاريخ . صحيح أن الشعارات الأولى للثورة, ومنطلقاتها العفوية المدنية المؤسَّسة على وعي تاريخي جذري برفض الاستبداد والعنف, والمتطلعة إلى دولة وطنية ديمقراطية حديثة, قد خلقت لدى النخب حالة من الإذعان المؤقت للشارع المتمرد, بدت خلاله مرتبكة ومجبرة على ترداد مطالب الحراك, والتلطّي خلفه ( تمتمة تستظل بما تعالى من أصوات الثائرين, على حد تعبير المفكر الطاهر لبيب ).لكن الصحيح أيضاً أن صوتَ السلاح الذي أقصى شيئاً فشيئاً صوتَ الثورة الحقيقي, قد أعاد الروح إلى تلك النخب, وسمح لها باسترداد صوتها القديم المعهود, الصوت الإيديولوجي – الدعويّ الذي يستثمر آلام الناس وعواطفهم, ويجانب العقلانية في السياسة والفكر, وينتقل بيسر وخفة من حركة إلى أخرى عبر سيمفونية الدم والخراب. صوتٍ تربّى في فضاء إيديولوجي مغلق صارم ونهائي, يفهم التغيير على أنه تغيير السلطة الحاكمة فحسب, وبأي ثمن, ولو عبر صفقات ومناورات وبأدوات من جنس الأدوات التي جاءت بالنظام السابق إلى السلطة وأبّدته بها. ويختزل العلاقة مع الجماهير إلى استثمار سريع براغماتي لشعبوية صنعتها شروط وسياقات سقيمة ومظلمة و متوحشة. صوتٍ يضمر تمجيد العنف والإقصاء, ويختزن الكثير من الضلال والقدرة على التضليل, مع نسيان كامل أو شبه كامل للأهداف الأساسية للثورة, والمطالب الحقيقية لجمهور الحراك. * * *لقد انطلق النظام السوريّ بفاشيتهّ الدموية لمواجهة الحراك الشعبي وترويعه, تمهيداً لاستعادة حالة الإذعان السابقة والمحافظة على تأبيد سلطته المستبدة الفاسدة؛ من قاعدتين أساسيتين يجيد تفعيلهما بشكل معروف منذ ثمانينات القرن المنصرم : الحل الأمني القائم على استخدام أقصى درجات العنف والتوحّش, واستثارة الوعي الطائفي. والنظام كان, كي يوفر فضاءً مناسباً لتفعيل هاتين القاعدتين ويبرر استخدامهما, يتهم – بالمقابل – الحراكَ بأنه عنفي إرهابيّ طائفي, بينما لم يكن الثوار آنذاك يتوسّلون في مظاهراتهم بغير شعارات من مثل: الشعب السوري واحد…وبأغنيات القاشوش التي ترى أن سوريا بدها حرية, وتطالب الطاغية بالرحيل. لكن العسكرة – وللأسف – جعلت من هذه الاتهامات الباطلة في حينه, حقيقة واقعة وملموسة فيما بعد. وبمقدار الإيغال في توسّل الحل العنفيّ العسكري, الذي بات الآن متبادَلاً وأفقاً وحيداً للطرفين المتحاربين؛ بمقدار ما كان الطرفان ( النظام الفاشي والنخب المعارضة) يزدادان شبَهاً ببعضهما البعض إلى حدود لافتة, لجهة اعتبار السلاح خياراً وحيداً ونهائياً, أو لجهة الانخراط في الردح الطائفي واستثمار الإيحاءات والتحديدات الطائفية بشكل رخيص. وهكذا وصل الأمر ببعض النخب في المعارضة إلى المجاهرة بالتحريض على ذبح أطفال العلويين رداً على ذبح شبيحة النظام لأطفال السنة..!! كما تطلّع سيناريست وصحافي سوري إلى رؤية دمشق خالية من العلويين ( على مبدأ الخلو من الكوليسترول بحسب تعبيره الساخر). ويستعرض مقرب من الجيش الحر قوة تم الحصول عليها في وهم الفضائيات الإخبارية, ويهدد بالهجوم على الدولة الصفوية. بينما يصرح أحد أركان المعارضة بثقة امبراطور أن الحل الوحيد للمشكلة السورية هو السلاح.هذا كله – مثلما يبدو لي شخصياً – يأتي بمثابة طعنة لئيمة في ظهر الثورة وسوريا ومستقبلها المنشود بعد عقود الطغيان والقمع والإفقار الروحي والأخلاقي والمادي. بمثابة تحطيم حقيقي للأفق الوطني السلميّ الديمقراطي الذي سعت إليه الثورة, وانطلقت على هدي سمته العظيم. هو سياق ناشز ومشوه في الاجتماع السوري وخطابه السياسي والفكري الوطني. أقل ما يوصف به أنه – كما يفعل النظام تماماً- ذاهب في اتجاه الظلام والانحطاط على مستوى فهم التاريخ والمشاركة فيه معرفياً وأخلاقياً وسياسياً. عوضاً عن أن ترتقي المعارضة السياسية ونخبها, بالشعارات والرؤى والمطالب التي طرحها الحراك في تعبيراته السلمية العفوية, إلى مستوى – المشروع السياسي الاجتماعي – الجديد والجامع, فقد ساهمت – على العكس – بتغييب هذه الشعارات والرؤى في سياق عنفي دموي جهد النظام للتأسيس له وجعله عاماً ومتبادلاً.* * *ويجد هذا السياق تعبيره الأكثر جلاء ومرارة في موقف بعض سياسيي المعارضة ومثقفيها من (جبهة النصرة) التي تصاعَد دورُها العسكري في الثورة السورية مؤخراً بشكل لافت, و وجدت في فضاء الرعب المنصبّ من آلة النظام المتوحشة, مجالاً مناسباً للحصول على حواضن شعبية تتشكل أساساً من مدنيين عزل وريفيين بسطاء, وجدوا أنفسهم بدون حام أو شفيق, في أتون صراع دموي غير أخلاقي وغير مفهوم بالنسبة لمنطق الثورة في تحديداتها الأساسية.فبعد صدور القرار الأمريكي في 11 ديسمبر الماضي, بإدراج ( جبهة النصرة ) على قائمة المنظمات الإرهابية, سارع أقطاب المعارضة السورية إلى رفض هذا الأمر, وطالبوا الولايات المتحدة بإعادة النظر فيه. وكما لاحظ الكاتب – حازم الأمين – في صحيفة الحياة, فإن ” إجماعاً نادراً على ادانة القرار لم نجد مثيلاً له في تصورات المعارضة حول مستقبل سورية وحول وقائع الثورة فيها، عبّر عنه الائتلاف الوطني والمجلس الوطني وجماعة الإخوان المسلمين”. لا ريب أن للأمريكيين حساباتهم الخاصة من وراء القرار, على صعيد الداخل الأمريكي, وعلى صعيد إستراتيجيتهم الخاصة إزاء الربيع العربي ونتائجه عموماً. القرار يسمح للإدارة الأمريكية مستقبلاً بمناورات أوسع في موقفها الغائم أصلاً من الثورة السورية, وتداعياتها الداخلية والخارجية. والقرار لا يلغي حقيقة أن الأمريكيين ساهموا بشكل غير مباشر في تغذية واستنبات الجماعات الجهادية في سوريا, كما أوضحتُ في دراسة سابقة ( الأيام السود والجهاد المحمود : ملابسات وآفاق انتشار الجهادية الأصولية في سوريا – الحوار المتمدن 30/11/ 2012 ). ما يهمنا هنا هو موقف النخب السورية المعارضة من القرار, وأبعاد هذا الموقف في سياق تفاعل هذه النخب مع الحدث وسبل تفكيرها بمعنى الثورة والمستقبل السوري. وبغض النظر عن مدى شعبية ( جبهة النصرة ) في الداخل السوري, وملابسات دخولها إلى سوريا ومصادر تمويلها ومشاركتها في القتال, وطبيعة هذه المشاركة…الخ, فإن القضية الأساسيّة هنا يجب أن تنصب على تقييم دور النصرة في موازاة ما تريده الثورة السورية بالأساس, في انطلاقتها واستمرارها الملحمي العظيم, كسياق كامل ومتكامل تتحدد أهميته التاريخية بنتائجه التي ستتحقق لاحقاً, على صعيد الدولة المأمولة بدلالتها الحقوقية والتمثيلية التعاقدية. أي الثورة كسياق يذهب أبعد من مجرد إسقاط النظام. فهل انطلقت المعارضة برفضها للقرار الأمريكي على خلفية وعي سياسي و وطني بهذا السياق كاملاً.. والالتزام بكافة استحقاقاته التي تكفل تحقيق أهدافه الأساسية وبذاتها من دون أي تنازلات ورهانات غامضة..؟! أم أنها جعلت من إسقاط النظام هدفاً مركزياً و وحيداً بغض النظر عن القوى المشاركة والبدائل المحتملة لسقوطه..؟! يتوسل أقطاب المعارضة مبررات شكلية في رفضهم للقرار الأمريكي, ويتجاهلون حقائق واعتبارات كثيرة, قفزاً نحو استرضاء فئات من السوريين وجدت في جبهة النصرة وسيلة للخلاص والحماية, في سياق غابت عنه السياسة الوطنية العقلانية, و حضر التحريض على العنف والتمايز الطائفي. السيد (جورج صبرا) يصرح نيابة عن السوريين وباسمهم, بأن الشعب السوري يعتبر النصرة جزءاً من الثورة, مع أن اختباراً جاداً ومدققاً للمزاج العام في سوريا يقول عكس ذلك. إن صرخات الألم المترددة في كل مكان من سوريا لا تعكس عمق الوعي السوري, ولا حقيقة الاجتماع السوري الذي رحّب بوجود صبرا على رأس المجلس الوطني, وأحيى السوريون من خلاله ذكرى رمز وطني من رموزهم: فارس الخوري..! بينما تسعى جبهة النصرة إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية في سوريا على أنقاض نظام الاستبداد الحالي. إن التقاء – مناضل شيوعي قديم : جورج صبرا – مع – مجاهد إسلامي عريق: فاروق طيفور الذي يعتبره البعض الزعيم الفعلي للجبهة – في صعيد واحد : تأييد جبهة النصرة والدفاع عنها, يعكس الطبيعة التلفيقية الشكلية لتمثيل المعارضة لمرجعياتها الفكرية والاجتماعية والشعبية في الاجتماع السوري, والضعف الكبير لهذا التمثيل, وهو ما عكسته تعليقات المواطنين على موقف صبرا تحديداً. وقد كرر الأستاذ فاروق طيفور ( المراقب العام للأخوان المسلمين) الإشارة إلى حب السوريين لجبهة النصرة, في اختزال واضح لمعنى السوريين ومعنى الحب أيضاً, مع استبطان مؤكد للمنهج المتبع لدى المعارضة في ممارسة السياسة : الشعبوية السياسية حيث تستبدل بالسياسة الوطنية العقلانية, الشعارات العاطفية والتعميمات المضللة والبراغماتية الضيقة. يتجاهل كل من السيدين صبرا وطيفور حقائق و وقائع عديدة حدثت على الأرض تنفي في معظمها هذا التصور المفترض عن حب الشعب السوري لجبهة النصرة أو اعتباره إياها جزءاً من الثورة. من ذلك أذكر ردود الأفعال التي ظهرت مؤخراً عقب إعلان الجبهة مع مجموعة ألوية أخرى عن إقامة الدولة الإسلامية ابتداء من حلب. ففي هذه الردود ما يشير إلى خلافات واضحة بين جبهة النصرة والكثير من الفصائل المقاتلة الأخرى. كما تعكس الانتقادات الصادرة من مثقفين ونشطاء ميدانيين وجماعات مدنية على مواقع التواصل الاجتماعي, طبيعة المزاج السوري الذي يتحدث السيدان باسمه, وموقفه من النصرة. وأذكّر هنا بأن اشتباكات مسلحة وقعت بين مقاتلي الجبهة ومقاتلين في فصائل أخرى على خلفية خلافات عقائدية وتجاذبات في فرض السلطة والحصول على الامتيازات ميدانياً. وقد صرّح عدد من قادة المعارضة المسلحة لفرانس برس أنهم سيطلبون من الجهاديين الأجانب مغادرة سوريا ما إن تنتهي الثورة. أما الأستاذ ( أحمد معاذ الخطيب ) رئيس الائتلاف الوطني السوري, فقد تضمن كلامه حول القرار الأمريكي تناقضاً كبيراً عندما قال: ” إننا بكل وضوح ضد كل فكر تكفيري. ضد كل فكر يستبيح دماء الناس, وكل فكر يريد أن يفرض بالقوة رؤيته على الجميع “. لكنه في الوقت نفسه طالب الولايات المتحدة بإعادة النظر في موقفها من جبهة النصرة..!. ويتضمن رفض السيد ( رضوان زيادة ), وهو مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان, للقرار الأمريكي نفس التناقض في كلام السيد الخطيب, حيث يشير زيادة إلى أن جبهة النصرة تتخذ خطاً راديكالياً بينما هدف الثورة هو بناء الدولة المدنية..! لكنه مع ذلك يعتبر القرار الأمريكي قراراً – خاطئاً ومتسرعاً – . وقدم الأستاذ زيادة تبريراً لموقفه بالقول: إن القرار الأمريكي يعطي صدقية لكلام الرئيس السوري عن أنه يحارب جماعات إرهابية مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة. إن الوقائع على الأرض في سوريا, التي يشاهدها العالم على مدى أشهر صباح مساء, غير قادرة على إعطاء صدقية لكلام الأسد… ويفعل القرار الأمريكي ذلك..؟! ألم يقرأ الأستاذ مدير مركز دراسات حقوق الإنسان تقاريرَ الصحافة الأجنبية ومراكز الأبحاث ( آرون زيلين – فرانسوا بورغان – تقرير مجموعة الأزمات الدولية رقم 131 الصادر في أكتوبر 2012…الخ؟!), وفيها جميعاً تأكيدات وشواهد ميدانية على وجود هذه الجماعات داخل سوريا..ومشاركتها الفاعلة في القتال ضد قوات الأسد..؟!.وتجد هذه المواقف سنداً لها في كتابات صحافية ومتابعات تحليلية, لكتّاب معارضين ونشطاء مثقفين مستقلين, أبرز نماذجها نقع عليه في مقاربات الكاتب ( ياسين الحاج صالح ) الذي طوّر موقفه المؤيد لعسكرة الثورة وتسليحها بتضمين كتاباته الأخيرة رسائل غزل إلى جبهة النصرة, وتثمين لدورها في الثورة, إلى درجة التساؤل على صفحته في – فيسبوك – : ماذا فعلت جبهة النصرة حتى أبرر لها..؟ ما فعلت جبهة النصرة شيئاً لحد اليوم إلاّ ضد النظام !!.وفي صياغة أوضح لخلفيات موقف السيد (ياسين الحاج صالح) من جبهة النصرة, يرى الكاتب( ملحق النهار – 29/12/2012) أن ” امتلاك الحرب أضحى في سوريا شرطاً لامتلاك السياسة “. وبما أن ” تنويعات من الإسلام السياسي – بين الإسلام الشعبي إلى الإسلام السلفي الجهادي – توفر الأرض النفسية والفكرية الأنسب لامتلاك الحرب عبر مفهومي الجهاد والاستشهاد ” ؛ فإن مباركة الدور الذي تلعبه النصرة في الشأن السوري هو بمثابة تعبير عن الطموح إلى امتلاك السياسة, عبر إسقاط النظام بالحرب التي تُمتلك من خلال الإسلام الجهادي.هذا الفهم للتحالفات المؤقتة ( البراغماتية السياسية) من أجل هدف وحيد هو إسقاط النظام بأي شكل وبأي ثمن ( يكرر السيد ياسين : إلى حين إسقاط النظام ), ينسجم تماماً ( يرتهن وينقاد بالضرورة..؟!) مع تأييد الكاتب المستمر للعسكرة وتسليح الحراك, ودفاعه عن صوابية ذلك بحجة الدفاع عن النفس في مواجهة توحش النظام. وحقيقة الأمر أن التناقضات الجذرية تسم خطاب العسكرة وحواشيه منذ البداية, وكذلك الأمر بالنسبة لموقف السيد ياسين من العسكرة وجبهة النصرة. كان ثمة حديث عن السلاح لحماية التظاهر السلمي ( بالعنف نحمي سلمية الثورة؟؟! ). وحديث عن كتائب مقاتلة يجب دعمها ولكن يجب أيضاً توحيدها وضبط سلاحها…!! ( هل أمكن ذلك طوال سنة ونصف..؟ وهل يمكن ذلك أصلاً ؟! ). أخيراً : كان ثمة تعويل على سلاح يصد توحش النظام, ولكن من دون تدبر بمصادر السلاح واشتراطات ومصالح مموليه…الخ. والأستاذ ياسين أيضاً يعتبر جبهة النصرة نموذجاً مقلقاً, لكنه مع ذلك يريد امتلاك السياسة بالتعويل على هذا النموذج الذي تثبت تجارب قريبة مجاورة وبعيدة عبر التاريخ والجغرافيا, أن النموذج المأمول هذا, باعتماده المطلقات وتوسله العنف, يدمر السياسة والفاعلين فيها جميعاً. والتناقض الأكبر, والفاجع حقيقة ومجازاً, يتمثل في تصور إمكانية استعانة ثورة مدنية سلمية شعبية يراد لها أن تزيح الطغيان والتوحش, وتفضي إلى الحرية والدولة المدنية التعاقدية؛ بجبهة النصرة سبيلاً لامتلاك السياسة بعد امتلاك الحرب..!؟ ما غفل الكاتب عنه أن النظام يعتقد نفس الشيء أصلاً, ولا يفعل شيئاً سواه منذ اثنين وعشرين شهراً : امتلاك الحرب لامتلاك السياسة والدولة والسلطة والثروة…إن ظاهر الخطاب باطمئنانه لوهم البداهة, واستخدامه اللغة اليقينية المتعالية بعلومها وبلاغتها, لا يستطيع إخفاء التناقضات الكاملة في المضمون, التلفيق والارتباك الواضح في تمثيل الحقيقة والواقع. إن الخوف الحقيقي والمشروع على مستقبل سوريا, من ( جبهة النصرة ) وغيرها من فصائل الإسلام الجهادي, يغدو – هذا الخوف- في خطاب الكاتب وسرده البلاغي, مجرد – افتراض تأملي -, بينما تصريحات الجبهة وأعمالها الميدانية التي تملأ السمع والبصر, لا تفلح في منح التأمل شرعيته.* * *أساءت هذه المواقف إلى التفوق الأخلاقي للثورة السورية على نظام الاستبداد والتوحش. فبينما يتعرف هذا الأخير بخطابه الأمني العنفي والطائفي, وباستبعاده السياسة وركوبه الدولة؛ فإن النصرة لا تخرج في بنيتها الفكرية والسياسية عن هذا الخطاب, مما يمثل انقلاباً حقيقياً على الدلالة التاريخية المركزية ( الأخلاقية والسياسية) للثورة السورية, بوصفها ثورة وطنية سلمية تتطلع إلى عقد اجتماعي جديد في مجال سياسي- حقوقي لحمته وسداه حقوق الإنسان والمواطنة الكاملة. وبينما انطلقت الثورة بتعبيرات سلمية مدنية من أجل الحصول على الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة, لا تكف (جبهة النصرة) منذ أشهر عن القيام بممارسات تتنافى مع هذه القيم ( القصف بالنسف …مثلاً ! ), وتدأب في رفع شعار ( الخلافة الإسلامية) و ” إعادة سلطان الله إلى أرضه “, كشكل للدولة المأمولة.الموقف من (جبهة النصرة), كما استعرضناه للتو, يجسد بؤسَ النخب السورية المعارضة على مستوى السياسة والثقافة, حيث تكشّفت هذه النخب في الممارسة السياسية, عن خفة وانتهازية واضحة في السعي للحصول على تعاطف وتأييد قسم من الشارع السوري, عبر استثمار شعبوية كرستها آلة النظام المتوحشة وسعى النظام إليها أساساً عندما خلق ظروف تسليح الحراك ودفعه لتبني العنف ومستتبعاته من أسلمة وتطييف. وفي الممارسة الثقافية – الكتابة – أظهرت هذه النخب تنكراً مزرياً للمعرفة العلمية الموضوعية وحقائق التاريخ والعلاقة بين الفكر والممارسة. بل أظهرت تنكباً واضحاً عن مهام الثقافة الوطنية والفكر النقدي, بتغاضيها أولاً عن عسكرة الثورة ودفعها نحو العنف والتسلح, ثم تغاضيها عن تضخم دور وفاعلية (جبهة النصرة) في الثورة, بحجة أن الوقت الآن لا يسمح بغير العمل على إسقاط النظام بأي وسيلة, أما النقد العقلاني و تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية, فهي أمور تأتي لاحقاً. فصلت النخب المعارضة هدف – إسقاط النظام – عن سياقه الكامل, ورفعته شعاراً مركزياً وحيداً ويكاد يكون نهائياً, يخفي بصخبه وشعبويته السياق كله الذي انطلقت الثورة من خلاله واندرجت أهدافها الكاملة فيه. وعلى ضوء هذا الإعلاء لهدف إسقاط النظام من قبل المعارضة, مع تجاهل وتغييب الأهداف الأساسية للثورة, نفهم لماذا رحبت المعارضة وساهمت في عسكرة الثورة وتسليح الحراك, ونفهم تأييدها لجبهة النصرة, ومسارعتها للدفاع عنها أمام القرار الأمريكي الأخير بإدراجها في القائمة السوداء للإرهاب. لقد غيّبت النخب السياسية والثقافية المعارضة, خلال موقفها من (جبهة النصرة), سؤال : إلى أين ؟ الذي هو سؤال الثائرين كما يقول المفكر – الطاهر لبيب -, على حساب نزوع آني يهجس بالسلطة ويستبطن كرسيها – بالنسبة للسياسي المعارض -, ويكاد يكون ثأرياً انفعالياً يسعى إلى التشفي الشخصي, في خطاب المثقف المعارض.المصدر: الحوار المتمدن