عن الثورة بوصفها فناً
عمر قدور10.11.2012أتاحت ثورات الربيع العربي لمن يعايشها ملامسة الثورة عن قرب، ولا شك في أن المجال الحسي للثورة يختلف عن المنظومات النظرية التي عرفها الكثيرون، أو تبنوها، عن ثورات ماضية حدثت في أمكنة أخرى. وجه الاختلاف هنا لا يتأتى فقط من خصوصية كل ثورة وخصوصية كل شعب، إذ من المرجح أيضاً أن سردية كل شعب عن ثورته تفترق كثيراً أو قليلاً عن الثورة ذاتها، وعليه فإن ما يصل إلى الآخرين هي رواية الثورة، والتي بطبيعتها لا بد أن تكون انتقائية ومحكومة بطبيعة السرد بعد. لنا أن نتخيل الأمر أيضاً عندما ستأتي أجيال لم تعايش الربيع العربي فتروي قصته كما وصلتها أو كما تتخيلها، ولنا قبل ذلك أن ننتظر الروايات المعتمدة لمن عايشوا الأحداث الحالية، والتي ستغيب عنها تفاصيل وربما تبرز أخرى لم يكن يُرى لها شأن كبير من قبل.ثمّ إن المجال الحسي للثورة لا يتطابق مع المجال العاطفي، وعلى الأغلب تتسع مساحة الثاني كلما تضاءلت مساحة الأول ما يخلق فجوات بين الاثنين يملؤها التأويل الشخصي، وقد تغيب عنها شوائب لا تخلو منها أية ثورة، فتنزاح الأخيرة عن نفسها كما ينزاح نص أُعيدت كتابته مرات عديدة عن صورته الأولى. وعلى الرغم من تطور وسائل الإعلام إلا أن هذا لا يجعل من التوثيق أقرب إلى الدقة، لأنه بدوره يعجز عن التقاط كافة المؤثرات، ومن طبعه أن يلاحق ما يُعتقد أن الأكثر إثارة، أي أن الإعلام يباشر رواية الثورة ويخضعها لقوانينه الخاصة، وما يصل إلى المتلقي في المحصلة لن يعدو كونه “رواية الحلم لا الحلم ذاته” باستعارة من جاك لاكان.وبالاستفادة من لاكان أيضاً يمكن إعادة تدوير نصّ الثورة، وقراءة ما بين سطوره للكشف عن المهمّش أو حتى عمّا لا يُراد قوله، لكن الاستفادة تغدو ذات مغزى أكبر عندما تقودنا إلى مقارنة الثورة بالحلم. فالحلم، فضلاً عما يرى فيه علماء النفس من تمثيلات لاواعية، يملك من الكثافة الزمنية ما يجيز لنا مقارنة زمن الثورة بزمنه. بهذا المعنى تبدو الثورة لاواقعية منذ البداية، وهي إذ تحمل كل هذه الكثافة من الزمن فإنما تخرج عن الإيقاع المعتاد للزمن الواقعي الذي سبقها والذي سيليها، لذا يكون من المجاز احتساب مدتها بالزمن المعتاد، أو محاولة تأصيلها على منطق المتوقَّع والحتمي، مثلما من الجائر قسر الحلم على قوانين الواقع أو قسر رواية أدبية على القوانين نفسها.قبل أن تتحول إلى سردية تقارب الثورةُ الفنَّ، والمحك هنا ليس في قدرتها على إنتاج نص فني يمثّلها، بل على العموم تندر النصوص العالية فنياً من بين تلك التي تدّعي تمثيل الثورة في أوانها. فنية الثورة تنبع من طبيعتها لا من المحاولات الفنية التي ترافقها، أو حتى مما يسمّيه البعض “فن الثورة” دلالةً على الأساليب المبتدعة للوصول إلى غايتها. هذه الفنية تتأتى أولاً من حالة الترقب أو كسر هامش التوقع، ومن ثم ذلك الزمن الزاخر بالحركة حيث تعود الحركة إلى تعريفها بوصفها زمناً.لعل الزمن هو المعيار الأهم فيما يجعل الفن فناً، إذ لا يمكن تصور فنّ يسجل الواقع بالمعنى الكرونولوجي الدقيق، وللزمن الفني وحداته وتقسيماته الخاصة بكل نوع ولكن المشتركة في عموم الفنون، ويكاد من المستحيل أن نتخيل فناً مجرداً عن الزمن، أو فناً خالياً على الإطلاق من مفهوم الزمن. في الفنون الكتابية، على سبيل المثال، تؤدي اللغة وظيفة زمنية؛ فالإسهاب زمن، والتقطيع زمن، وخلق المقدّمات للوصول إلى خاتمة ما هو زمن. قد لا يحدث شيء في النص سوى اللغة، لكن اللغة هنا تنوب عن الأفعال المباشرة، وتخلق الكثافة الفنية للنص التي تتحدد بما يحدث فيها من لغة. مثلاً قد تكون رواية طويلة جداً عن ليلة واحدة، أو رواية قصيرة عن قرن، أو رواية بلا زمن واقعي متعين؛ هذه تصنيفات تساير الزمن الواقعي فحسب، أما الزمن الفني للرواية فتحركه أفعال مختلفة من الاستغراق أو المتعة أو الدهشة، تلك الأفعال والانفعالات التي تعاند الزمن الواقعي أصلاً.ليست الثورة فكرة أو وصولاً لهدف وحسب، كما قد يراها البعض عن بعد، العيش في الثورة، وبلا أي ادعاء رومانسي، أشبه بالاستغراق في نص متعدد وغني الدلالات. فالمدى الحسي للثورة يطغى على الزمن الواقعي المعاش، وإذا سلفت مقارنته بالحلم فلأن الأخير أيضاً يقارب الفنَّ كثافةً وإيقاعاً. حيث الأبصار والأجساد برمتها مشدودة لمتابعة تفاصيل الثورة وترقب مآلاتها تنهمك الحواس عن المرور الرتيب لعقارب الوقت، وتغفل عن التفاصيل التي كانت من قبل تؤلف العيش. لكن هذا أيضاً لا يؤخذ بكلّيته فقط، فتفاصيل الثورة وما قد تقترحه في أي وقت هي التي تمسك بالحواس وتقلقها بين شدّ وارتخاء، حتى إن هذا قد يتجاوز مدى القناعة بالثورة نفسها لأن المدى الحسي لها لا يتطابق بالضرورة مع مداها الفكري.أن تقع الرتابة لعهود طويلة ثم ينتفض الزمن على نفسه، لا يحدث هذا من باب الاستدراك المستعجل لما فات، فالثورة لا تأتي محملة بيقين نهائي، ولا يُعرَف في أية نقطة بالضبط سترتسم خاتمتها وتسلّم أبناءها لزمن واقعي جديد. ليس من شأن الاقتلاع من الرتابة أن يحقق طمأنينة بديلة، مثلما ليس من شأن الفن أن يكون بديلاً متواضعاً عن الواقع، لكن كثافة زمن الثورة قد تفسّر صعوبة مواكبتها بفنّ يمثّل جوهرها من دون أن يقع في فخ الأمانة الواقعية لها، فسطوة زمن الثورة، الذي هو زمن فني، تنافس الزمن الفني المعهود وتمتنع عليه. أما المتخيَّل الثوري فيبدو في المتناول مقارنة بالمتخيّل الفني، وهنا تأتي الرومانسية الثورية لتؤسطر شخصياتها بسردية تلقى الترحاب بما أن اصطناعها تم أصلاً وفق تواطؤ جماعي.قد نستعير مفردات علم النفس لنؤوّل الثورة على أنها حلم جماعي، وكأنها بذلك تفريج عن كبت جماعي مديد، ولم يكن لها أن تهيمن وتستحوذ على الحواس لولا هذا المزيج مما يبدو واقعاً وحلماً معاً، أي لولا المصالحة الاستثنائية بين ما كان معقولاً وما لم يكن معقولاً من قبل. في لحظة الاستثناء هذه تنعتق الشخصيات من صورتها المسبقة، وتعيد اكتشاف ذاتها وكأنها تنزاح عنها مثلما تنزاح شخصيات روائية أو سينمائية عن شخصيات الواقع ومع ذلك تبقى مقنعة بواقعيتها، أو كأن الثورة تؤلف شعباً بعد إدخال التعديلات اللازمة على مادته الخام!. هذا لا يعني تجريد الشخصية من إرادتها الخاصة وحريتها بالتحكم بمصيرها، لكن الأمر ربما يشبه تأليفاً جماعياً لنص مشترك تنتقل فيه العدوى سريعاً، وتسير الشخصيات بما يلائم منطق التأليف أولاً.فيما بعد ستعود الشخصيات إلى واقعها، باستثناء تلك التي واجهت مصائرها التراجيدية؛ بعضها لن يعود كما كان، وبعضها قد يلاقي نفسه القديمة باشتياق بعد أن قاسى كثافة العيش. ستُروى قصص كثيرة، وستتقدم العواطف والرغبات لتملأ ثقوب الذاكرة بعد أن تتسرب الثورة من الحواس؛ فيما بعد سيُعاد تأليف الثورة مراراً بعد أن تكف هي عن هذه المهمة.المصدر: Facebook