الخلاص من النمطية
حازم نهار23.02.2013 أتقن النظام السوري طوال عقود لعبة الظاهر والباطن، أو لعبة انفصال الممارسة عن الخطاب. فالخطاب المتخم بتمجيد الوطنية السورية كان يسير بالتوازي مع ممارسات غير وطنية، بل إن الوطنية السورية المفتخَر بها كانت بالضبط تعني تمجيد النظام الحاكم ولا شيء غيره، ولذلك لم يكن يكترث لها السوريون في الماضي، لكنهم مع الثورة بدأوا يبحثون عنها ويحاولون تلمسها وبناءها. لم يتعامل النظام مع السوريين في أي لحظة بوصفهم شعباً، أي كمواطنين أحراراً، بل كمكوِّنات وجزر معزولة ومتحاجزة تجهل بعضها وتقوم علاقاتها البينية على الحذر والتوجس والخوف. وهذه الجزر، الإثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية، يقوم بجمعها وتكوين اللحمة بينها بالقوة العسكرية والأمنية في وضعية هشة قابلة للانفكاك عندما تضعف قبضته أو يزول. ومن البديهي القول هذا التجميع للمكوِّنات والفئات السورية المتنوعة، لا يشكل شعباً ولا تنتج من العلاقات المتبادلة بينها دولة وطنية بالمعنى الحديث. مع الزمن، أدَّت هذه العلاقة، القائمة على الانعزال والتحاجز بين المكونات السورية من جهة، وارتباطها جميعاً بحبل الاستبداد من جهة أخرى، إلى تشجيع هذه المكوِّنات على بناء صور نمطية وهمية عن بعضها. فكل فئة تكوِّن لوحة ثابتة، خرافية ومشوَّهة، عن العادات والمعارف وأنماط السلوك السائدة لدى الفئات الأخرى، بما يعيق ولادة حالة روحية مشتركة تعتبر أساسية لتكوين شبكة أمان مجتمعية وإعادة إنتاج الهوية الوطنية الجامعة. هذه الصور النمطية السائدة ما هي إلا تجريدات بالغة التبسيط والتعميم، وتعميماتها لا تُبقي مجالاً للاستثناء. إذ تتضمن عملية التنميط في جوهرها حكماً أو تقييماً سطحياً وشاملاً يقترن بفئة من الناس، إثنية أو دينية أو مذهبية أو جنسية، في تجاهل تام للفروق الفردية بين أفرادها، ويصعب تغييره في معظم الأحيان. وهذا التنميط يؤدي وظيفة سياسية اجتماعية بالغة الخطورة، فالاعتقادات الوهمية والمبالغ بها التي تسبغ على فئة ما تقوم بدور تبرير السلوك العدائي إزاء تلك الفئة أو تحديد موقف قطعي ونهائي إزاءها. لقد أدَّت عملية عزل الفئات والمكوِّنات المجتمعية السورية عن بعضها إلى تعميم حالة من جهل السوريين ببعضهم، وهو ما دفع إلى تنشيط عملية توليد سمات عامة ثابتة تطلق على إحدى فئات المجتمع السوري، والتي تصاغ على أساس غير علمي أو موضوعي. إذ أنتجت هذه العملية جملة من الصفات التي ألصقتها المكوِّنات ببعضها، كأن يقال، على سبيل المثال: “المسلمون إرهابيون”، “الأكراد انفصاليون”، “العلويون موالون”، و”المسيحيون انتماؤهم للغرب”… إلخ. وبالطبع تتبع هذه الصور الخاطئة المتحدِّث والفئة التي يعلن انتماءه لها. في الحقيقة ليس هناك جماعة متجانسة، وإن وجود الفروق الفردية داخل الجماعة الواحدة هو القاعدة وليس الاستثناء. هذه التصورات العجيبة التي ارتسمت لدى المكوِّنات المجتمعية السورية عن بعضها تشكل اليوم عقبة حقيقية أمام نمو التعارف الروحي بينها، والذي يشكل أحد العناصر الضرورية لتحقيق الاندماج الوطني بمعناه الديمقراطي. ليس غريباً بعد ذلك أن تنتعش، لدى البعض، أيديولوجيات ما دون وطنية ترفع شعارات “العيش المشترك” و”التعايش”، والتي تعني في الجوهر التشارك في العيش على مضض، ونشوء حالة دائمة من التوتر والاحتقان بين المكوِّنات الاجتماعية، بل وعودة شعارات مضادة لكل محاولات بناء الدولة الوطنية، على شاكلة “تحالف الأقليات” و”حماية الأقليات”، والتي تشكل أساساً موضوعياً لحالة صراع واحتراب أهلية تؤدي إلى تمزيقه. كانت الثورة السورية، خاصة في الأشهر الأولى، فرصة مناسبة لرمي كل هذه الترهات في المزبلة، لكن النظام شغَّل آلته الإعلامية والأمنية لتثبيت التحاجزات التي أقامها بين السوريين كي يمنع ثورتهم من الحصول على أهم سمة، وهي “الصفة الوطنية”. فقد شرع السوريون مع الثورة السورية بالتعرف على بعضهم بعضاً للمرة الأولى، ودون حواجز، وصاروا يعرفون أنفسهم ويتواصلون، وينهون حقبة طويلة من الاغتراب والانعزال والجهل ببعضهم، وأخذوا يتفاعلون معاً ويتبادلون خبراتهم وصورهم ومعاناتهم وآلامهم، ويستردون ذواتهم التي بدَّدها القمع والاستبداد، وكان يمكن أن تؤدي هذه المسيرة إلى تحطيم كل الصور النمطية وإعادة بناء الهوية الوطنية السورية استناداً لحاجات الحاضر والآفاق المستقبلية، بدلاً من كل الموروثات الوهمية والمشوَّهة. ما كان للنظام أن ينجح في عزل السوريين عن بعضهم لولا تحطيمه لجنين الدولة الوطنية التي تشكلت بعد الاستقلال، وإعاقته في المستويات كافة لنمو الهوية الوطنية، خاصة باحتلاله لميدان الدولة وإلغاء عموميتها، وتصفية المجتمع المدني بمؤسساته وتنظيماته، تلك التي كان يمكن لها أن تنشئ الروابط الحديثة بين السوريين. إن إلغاء الصور النمطية السائدة يحتاج بالتأكيد إلى برامج ومشاريع ثقافية وإعلامية، وإلى خطاب سياسي وطني رزين ومسؤول، لكنه يحتاج أساساً إلى عملية مزدوجة، طرفها الأول إطلاق مفاعيل بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، والثاني إطلاق عملية التنمية الاقتصادية بكل تنوعاتها، فالتنمية واحدة من ركائز نجاح فكرة الاندماج الوطني. هذه العملية المزدوجة ستلغي الحواجز بين السوريين، وتعيد ترتيب ذاكرتهم ومخزونهم المعرفي، وتطلق عملية التعارف الروحي بينهم، واكتشاف أنفسهم من جديد، ليعرفوا حجم الوهم الذي انزرع في عقولهم وأرواحهم بفعل سياسات النظام الاستبدادية والتجهيلية. المصدر: المدن