الوعي الأزور وثنائية المقدس والمدنس
حازم نهار07.02.2013 لا تتغير آراء الفرد، صاحب الرؤية السياسية، إلا بشكل طفيف، وغالباً بالتدريج، بينما الوعي الأزور تستغرقه اللحظة ويسيطر عليه المزاج والرغبة، لذا تتغير مواقفه وقناعاته إلى النقيض بين ليلة وضحاها. في بداية الثورة كان المزاج العام مع المعارضة داخل سوريا والمثقفين الذين أعلنوا انحيازهم للثورة، وبعد أشهر قليلة تحول المزاج نحو شيطنة رموز الداخل وتبجيل المعارضين في الخارج الذين كانوا يسطِّرون الملاحم على الفضائيات، بحكم كونهم كانوا، كما يقال، “يفشون الخلق” ، بمسباتهم وشتائمهم للنظام الحاكم. وبلغ ذلك أوجه مع الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني، وسيطر مزاج عام بأن النصر قادم لا محالة على أيدي المجلس الموقر. في الوقت ذاته، كان هناك توجه “نخبوي”، ضيق الانتشار، ما فتئ يردِّد خطاباً مغايراً يقوم على لاءاتٍ ثلاث، اعتقد أصحابها أن مجرد رفعها سيكف شياطين الواقع عن الفعل، فكانت حالة أصحابه كمن يقف على ضفة النهر ويسخر من البشر الحقيقيين في معمعة الأمواج المتعالية. بعد ذلك، تلقى المجلس الوطني انتقاداتٍ لاذعة محقة، حتى من طباليه وزماريه، وممن اعتقدوا واهمين بأن النصر قادم على يدي “فحول” المجلس. ثم جاء الائتلاف، ولقي ترحيباً كبيراً، ووضع كثيرون آمالهم وآلامهم في جعبته، حتى ظهر أفراده وهم يغردون بشكل منفرد، وتتقاذفهم وتلعب بهم دول وسياسات شتى. كذلك، تحول المزاج العام منذ أشهر، بعد انسداد الآفاق، نحو تبجيل الجيش الحر. هنا أيضاً مارس الغالبية من جديد لعبة المقدس والمدنس، فقد رفع القسم الأكبر أفراد الجيش الحر والمسلحين إلى مصاف المقدس الذي لا يجوز نقده، وكأنهم ملائكة هبطوا من السماء وليسوا أبناء الواقع المرير الذي عاشته سوريا خلال نصف قرن، أو كأنهم لم يكونوا ضمن الجيش النظامي الذي بني على أسس الفساد واجتاحته سائر الموبقات، ليظهر لدى هؤلاء وكأن مجرد انشقاقهم يعني تطهرهم وتخلصهم من جميع الأمراض التي نمت برعاية النظام. فيما نظر البعض الآخر للمنشقين ولكل من حملوا السلاح ضد النظام على أنهم “إرهابيون” أو “أميون” أو “مرتزقة” أو “جاهلون”، وحمّلوهم -صراحة أو ضمناً- مسؤولية خراب وتدمير البلد، وهذا الرأي ليس أكثر من رؤية عوراء للواقع والحقائق. إنهم لم يحترموا آلام الناس، وفي العمق سخروا منهم واحتقروهم، وكان خطابهم متعالياً ونرجسياً عندما حمَّلوا البشر، فوق همومهم ومعاناتهم، مسؤولية ما يحدث. جرى الأمر ذاته عندما أصبحت جبهة النصرة حاضرة بقوة، فمنهم من ذهبوا نحو الدفاع عنها وعن دورها بسذاجة سياسية تستند إلى مبدأ “كل من يطلق طلقة ضد النظام فهو معي”، بل ووقفوا مدافعين عنها في وجه أمريكا وأوربا، ليؤكِّدوا –بشكل غير مسؤول- على اتهاماتٍ باطلة، تلك التي شكلت صلب خطاب النظام ضد الحراك الشعبي منذ اللحظة الأولى للثورة وحتى الآن. آخرون ذهبوا نحو شيطنة جبهة النصرة، ورجموها بسائر التهم، بدءاً من اتهامها بالعمالة للنظام، وانتهاءً بأنها مصدر الإرهاب والبلاء. فيما كان الموقف الصائب يقتضي، على الأقل حالياً، مناقشة وتحديد مواقف تفصيلية إزاء سلوكيات أي طرف على أرض الواقع اليوم، وتوجيه الثناء لكل تصرف يخدم أهداف الثورة في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، والنقد الواضح لكل تصرف يعيق تحقيق هذه الأهداف، وهذا يعني المحاسبة على السلوكيات الواقعية التفصيلية، وليس تحديد موقف حاسم ونهائي من أي طرف. لا تقع المسؤولية بالطبع، في كل هذه التبدلات في المواقف، على البشر الواقعيين، أصحاب الدم والحياة، بل على أولئك الذين تنطعوا وقاتلوا ليكونوا في الصفوف الأولى، وظنوا أن هذا سيجعل منهم قادة وسياسيين وزعماء، فيما هم في الحقيقة لم يكونوا سوى واهمين أو جاهلين أو نرجسيين أو دخلاء. لعل جوهر خطورة هذا الوعي الأزور، بكل اتجاهاته، أنه يترك البشر في المآل دون بوصلة سياسية تضبط إيقاع الحركة بكافة مستوياتها وأشكالها على أرض الواقع. وهو لا يزال يتعامل مع كافة القضايا والكلمات والتعابير تعاملاً سحرياً يقوم إما على التقديس أو التدنيس، ولم يدرك حتى اليوم أن المواقف التعميمية التي تنطلق من إسباغ الصفات الملائكية أو الشيطانية على أحداث الواقع وشخوصه ومفرداته هي مواقف مضلِّلة ولا تستطيع الإمساك بمفاصل الواقع بشكل حقيقي، وبناء رؤية متكاملة واستراتيجيات وخطط ومبادرات موزونة. السؤال هو: متى يمكن أن نهدأ في دواخلنا ونعيد تقييم الأمور، وكل ما يجري حولنا، استناداً للعقل والمنطق، بعيداً عن الغوغائية وضجيج الأصوات العالية التي أصابتنا بالصمم حتى فقدنا حاسة السمع، والتفكير أيضاً، وبعيداً عن النرجسيات المتعالية والفارغة التي أصابتنا بالقرف والاشمئزاز؟ هل هناك صعوبة هائلة كي نؤمن بضرورة أخذ نفس عميق، والقيام ببعض المعادلات الفكرية السياسية البسيطة، قبل أن ننطق بثقة عارمة بإحدى الكلمتين الكبيرتين: “نعم” أو “لا”، عندما نتعامل مع قضايا الواقع وشخوصه وأطرافه وتعبيراته الكلامية ؟. المصدر: زمان الوصل